الإنسان الكامل في الفكر الصوفي - عرض ونقد -

الأوراد/ الورد التاسع (٢٧٠ - ٢٩٦)

هذا ملخص يتضمن أهم النقاط الرئيسية والأفكار المهمة؛ لذا هو لا يغني عن الكتاب، صممناه لكم بشكل مريح يساعد على ترتيب المعلومة وفهمها

  • بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد، فهذا التعليق الثالث على الفصل الخامس، ويدور حول قضية وساطة الإنسان الكامل في توصيل الخلق بالحق أو في إيصال الخلق إلى الحق، ويدخل في ذلك مسألة التشبّه، وهذه العملية الصاعدة، العملي الصاعدة في الوساطة، الأولى كانت نازلة وهذه صاعدة، ما مهمة الإنسان الكامل بالنظر إلى علاقته بالخلق؟ مهمته إيصال الخلق إلى الحق فهو واسطة في تعرف الخلق على الحق، هذه المرحلة الأولى ثم تليها المرحلة الثانية بعد هذه المعرفة إذا حصلت يأتي الفناء، وهو غاية التصوف كما سبق بيانه في مقدمات التصوف، وقبل أن ألج في تفصيل هذه القضية باختصار، أقول الفكر الصوفي يعتمد على الخيالات والرموز والإشارات ولا يعتمد على أدلة منطقية ولذلك يجد المرء صعوبة في تفهم هذه الأفكار واستيعابها فضلًا أن يعرضها ويقربها، فالقارئ يجد عنتًا حقيقة في إدراك هذه القضايا، لأنها خيالات وخيالات لا تُبنى على أدلة يمكن أن يتسلسل العقل معها منطقيًا ويصل إلى نتائج، بل يجد فجوات كثير. ولذلك الصوفية عادة يقولون، المُريد وكذا: سِّلم. ويقولون للمخالف هذه مسائل ذوقية من لم يذق لا يمكن أن يدركها. وكذلك القارئ -يعني كان الله في عونه- سيجد من ذلك عنتًا حتى يفهم ما المراد وسيفهمه على عوج، بمعنى أنه سيفهم لكن إذا تطلب لفهمه أدلة منطقية فلن يجد، بل ينبغي له أن يتعامل مع النصوص الصوفية على أنها خيالات وأنها لا تقوم على أدلة فيفهمها كما وضعها أصحابها، لا ينطلق من منطلقات هو نشأ عليها وهو أن يكون منطقيًا، مرتبًا، منهجيًا، حتى يصل من المقدمات إلى النتائج، كلا، التصوف ليس هكذا، فكل ما يُطرح ليس عليه دليل، هي أمور كما قلت فلسفية والعجب أن الفلاسفة يدّعون أنهم أهل المعقولات ومع ذلك يتطابقون مع الصوفية، بل الصوفية فلاسفة في إلغاء العقل تمامًا بإقرار واعتراف في مسائل أصولية، عقدية، تتعلق بالكون وبالإله وبالإنسان وبالعالم ليس لها أي مستند صحيح يمكن أن يُبنى عليه، ولذلك يتخلصون من العقل تمامًا ومن العلم تمامًا ويتنكّرون لهذه الأصول ويبنون على الذوق والكشف والإلهام ونحو ذلك ويعيشون في خيالات. فلا بد من فهم هذه القضية حيال التصوف حين الاطلاع على منتوجهم لئلا يُصاب الإنسان بربكة ذهنية أو فكرية حينما يتناول كلامهم ومثل هذا الكتاب وعرض ما عندهم من أفكار حتى لا يدخل في نوع من الاضطراب، يريد أدلة منطقية ولا يجدها ويظن بنفسه سوءًا في الفهم، بينما الحقيقة السوء فيما عُرض أصلًا، ما عُرض يريد أن يقول أن الإنسان يفنى في الذات الإلهية، هذه القضية غير منطقية أصلًا، يريد أن يتشبه بالإله تشبهًا كاملًا، هذه قضية غير منطقية. هؤلاء يقولون إن الإنسان يريد أن يرتقي يعني من كونه مخلوقًا عبدًا إلى أن يتحدّ بالخالق ويكون بذلك إلاهًا ربًّا يعني هو يصبح إلهي، إلهي التكوين بعد أن كان بشري التكوين بسبب أنه اتحدّ، بسبب أنه رجع. فالمقصود هنا إذا رجعنا إلى الإنسان الكامل وهي بحسب عرض الصوفية إيصال الخلق الإنسان الذي هو غير كامل، إيصاله إلى الحق، إيصاله بمعنى تعريفه بأسمائه وصفاته ثم القيام على عملية التشبّه ليحصل من وراء ذلك الفناء، وهذا هو غاية الصوفي وهذا مطلوبه. كما قالوا: "يبقى من لم يزُل، ويفنى من لم يكن" من لم يكن ما هو؟ المخلوق الإنسان، هذا يفنى، ويبقى من لم يزل هو الحق، فأين يفنى هذا ويبقى أين؟ يفنى عن ذاته البشرية، يتخلص من تكوينه الجسدي السفلي ويكون روحانيًا محضًا حتى يتأهل للاتحاد والفناء بالأقدس بالحق، وحينذاك يصبح روحانيًا تامًا ويتخلص من الجسد فيرجع كما كان على النظرة الصوفية القديمة والفلسفية أن الكون كله كان روحانيًا محضًا ثم بعد ذلك انفصلت هذه الجزئيات ومنها الإنسان والبشر انفصلوا عن هذا الروحاني الأكبر الأقدس كجزئيات وتلبست بهذه الغلف والأجساد والسفليات فشقيت، تريد أن تسترجع مكانتها الأولى وتتخلص من هذه السفليات التي شقيت بها فتعمل على التخلص، بأي طريقة يتخلصون؟ بالتشبه، فإذا قالوا "التخلّق بأخلاق الله" وفي التعريف الفلسفي "ألتشبُّه بالإله على قدر الطاقة" فيعمل على التشبه حتى يصل إلى أن يتخلص من جسده من أحكام الجسد ويصبح روحانيًا محضًا وحينذاك ينتقل إلى الوضع الأول "ويبقى من يزُل، ويفنى من لم يكن". وهذه العملية التي يمارسها الإنسان قد يمارسها بطريقة فيها كثير من المجاهدة وهذا ما كان عليه المتصوفة الأوائل: فيها تقشف ومجاهدة وعزلة وسياحة، فيها تعذيب للبدن، لكن هذه القضية تحولت لاحقًا أو ظهر فيها سبيل آخر ربما لم يكن واضحًا في البداية لأمر ما، وهو أنه يمكن أن يصل إلى هذه الدرجة من التمكّن، من التشبّه ومن الفناء من غير مجاهدة أصلًا، بأعمال ذهنية وأبرز من أوضح هذا ابن عربي وإن كان ذلك بادرًا وباديًا في كلام المتقدمين كأبي الحسين النوري عندما عرّف التصوف بانه ليس مجاهدة وليس علم، يعني ليس هناك أمر يحتمل فيه المجاهدة والمشقّة والتعب حتى يصل إلى ما يريد بل هو تخلّق بأخلاق الله سبحانه وتعالى. فالنوري يقول: "ليس التصوف رسمًا ولا علمًا ولكنه خُلق، لأنه لو كان رسمًا لحُصّل بالمجاهدة، ولو كان علمًا لحُصّل بالتعليم، ولكنه تخلق بأخلاق الله ولن تستطيع أن تُقبل على الأخلاق الإلهية بعلم أو رسم" فهذا متقدم وهو من الصوفية الأوائل في الطبقة الأولى أو الثانية، ويقول هذا الكلام الذي يُعرّي ويسلب التصوف ناحية المجاهدة وتعب البدن من عزلة وسياحة وجوع وعريِّ وإلى غير ذلك، وفقر، يُعرّي ذلك كله ويقول مجرد تخلق بأخلاق الله. وابن عربي يوضح ذلك أنه يمكن أن يكون الأمر ذهنيًا، إذاً يمكن أن يُحصّل هذا الأمر بطريقة ذهن والعمليات الذهنية الفلسفية المحضة، ولها طرقها وهي موجودة في كلامهم كما في كتاب حيّ بن يقظان الذي ألّفه ابن طفيل في تفصيل هذه الطريقة التي فيها التشبه بالإله والتخلّق بأخلاق الله سبحانه وتعالى. ثم إنهم يقولون في طرق الوصول إلى الكمال الإنساني، وعرفنا ما معنى الكمال، هو الفناء في الذات الإلهية وفي الصفات الإلهية بحسب ما يقول المتصوفة وإن كان الفكر الصوفي هو فناء في الذات الإلهية. يقولون إن ذلك إما طريق الإنسان الكامل القائم والحقيقة المحمدية أو نوابه، أو من خلال الإنسان في نفسه، متى يكون من خلال الإنسان في نفسه؟ إذا أدرك أنه كامل، إدراكه يحمله على أن يتشبه لا أدري بنفسه او بمن لكن أن يدرك أنه كامل وحين ذاك تنكشف له الأمور الإلهي ويدرك أنه إلهي الأروما والجذر، وإذا لم يحصل له هذا فإن له طريق آخر وهو الإنسان الكامل ماثل أمامه من شيخ أو وليّ وحقيقة محمدية تمثلت في هؤلاء المشايخ بينما يتخذهم سلمًا ليصل إلى الحق من خلال الفناء، فهما طريقان: طريق النفس أو من طريق الإنسان الكامل القائم. وكما ذكرت في أول كلامي فإنه إذا حصل إلى مثل هذا ووصل إلى درجة الكمال فهذا هو الخلاص وهذه النهاية، أي هذه هي القيامة، ومنه نفهم أن الصوفية ليست عندهم قيامة، ليست قيامة بمعنى حشر الأجساد والأرواح، عند أهل الإسلام أن الحشر يكون بالأجساد والأرواح، لكن عند الفكر الصوفي الموافق للفكر الفلسفي الحشر روحيّ، فالحشر والقيامة والمعاد روحانيّ وليس جسدي، ومن ثم هذا الصوفي الفيلسوف يمكن أن يصل إلى قيامته إلى نهايته إلى الخلاص وهو حيّ، ولا يلزم من ذلك أن يموت، وإذا مات وصل أيضًا، لكن يمكن أن يكون حيًّا ويصل إلى درجة الفناء في الذات الإلهية وذلك لما ظن أبو يزيد أنه وصل والحلاج والشيلي الذي قال: "أنا الله، ما في الجبة إلا الله". منه نفهم أن حقيق الفكر الصوفي لا يؤمن بوجود جنة ولا نار، لأن الجنة والنار عندهم معدن، معدن تمتّع الحواس وليس الروح، ولذلك من فهم منهم حقيقة الفكر الصوفي هكذا نفى الجنة والنار، وقال المعاد روحاني، كما شهد عليهم الغزالي. ومن لم يفهم منهم أو كان متسترًا يريد أن يغطّي على الفكرة في حقيقتها صار يطعن ويستهزئ بنعيم الجنة وعذاب النار، ويقول: ما النار؟ لعبة الصبيان، أُطفيها بريقي أو أنفخ فيها فتنطفئ، أنصب عليها عندها خيمتي. ما الجنة؟ الجنة معدن تمتع الحواس: الفرج والبطن. وهكذا من هذه العبارات التي فيها ليس فيها تطلّع إلى الجنة ولا خوف من النار، والعبارة المشهورة عندهم: "أعبدك لا خوفًا من نارك ولا طمعًا في جنتك إنما هو في هذا السياق". فالصوفي يريد أن يصل بالتشبه إلى درجة أنه يستغني عن الجنة والنار، بمعنى أنه يريد أن يكون مثل كالإله في عدم الحاجة إلى نعيم أو خوف من عذاب، يريد أن يتحقق بالصفات الإلهية كليًّا. وهذا ما تقدم معنى الفناء في الذات الإلهية حتى يكون إلهيًّا في جذره وفي أصله، وحينذاك لا يحتاج إلى جنة ولا إلى نار، يعني لا يرغب لا في جنة ولا سخاف نار. هذا حقيقة التشبه بالإله على قدر الطاقة، أن يكون إلهيًا، ولذلك لم يكن عندهم معاد روحاني ولذلك استهانوا بالجنة وبالنار. وهذا طائفة من الصوفية قالوها من غير وعي بحقيقة الفكرة، وأن الفكرة مقصودها أن يكون إلهيًا وحينئذٍ يستغني عن الجنة والنار، وطائفة فهموا هذا وصاروا يتكلمون بالكلام الذي يقيهم ويحميهم من المسائلة الشرعية، فإن إنكار الجنة وإنكار النار أمر كفريّ متفق على أن من أنكرهما كافر، هذا اتفاق المسلمين عليه. فيصعب إنكار مثل هذه الأصول بين المسلمين فكان الطريق الذي ارتضاه هؤلاء الطعن في نعيم الجنة والاستهزاء بعذاب النار، على اعتبار أنهم ارتقوا عن هذه المبادئ أو هذه المقامات إلى مقام أعلى وهو حبّ الذات الإلهية وذلك أغناهم عن الجنة والنار، وهذه الفكرة لأول وهلة لمن لم يتأملها يظن أنها سامية، لكن في حقيقة الأمر هي تنصيب الإنسان مقام مكان الإله. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وصلّ الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
    تعليق على الورد التاسع والعاشر

    بصوت الكاتب

    1
    3
    00:00
    تحميل
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد،
فهذا التعليق الثالث على الفصل الخامس، ويدور حول قضية وساطة الإنسان الكامل في توصيل الخلق بالحق أو في إيصال الخلق إلى الحق، ويدخل في ذلك مسألة التشبّه، وهذه العملية الصاعدة، العملي الصاعدة في الوساطة، الأولى كانت نازلة وهذه صاعدة، ما مهمة الإنسان الكامل بالنظر إلى علاقته بالخلق؟
مهمته إيصال الخلق إلى الحق فهو واسطة في تعرف الخلق على الحق، هذه المرحلة الأولى ثم تليها المرحلة الثانية بعد هذه المعرفة إذا حصلت يأتي الفناء، وهو غاية التصوف كما سبق بيانه في مقدمات التصوف، وقبل أن ألج في تفصيل هذه القضية باختصار، أقول الفكر الصوفي يعتمد على الخيالات والرموز والإشارات ولا يعتمد على أدلة منطقية ولذلك يجد المرء صعوبة في تفهم هذه الأفكار واستيعابها فضلًا أن يعرضها ويقربها، فالقارئ يجد عنتًا حقيقة في إدراك هذه القضايا، لأنها خيالات وخيالات لا تُبنى على أدلة يمكن أن يتسلسل العقل معها منطقيًا ويصل إلى نتائج، بل يجد فجوات كثير.
ولذلك الصوفية عادة يقولون، المُريد وكذا: سِّلم. ويقولون للمخالف هذه مسائل ذوقية من لم يذق لا يمكن أن يدركها.
وكذلك القارئ -يعني كان الله في عونه- سيجد من ذلك عنتًا حتى يفهم ما المراد وسيفهمه على عوج، بمعنى أنه سيفهم لكن إذا تطلب لفهمه أدلة منطقية فلن يجد، بل ينبغي له أن يتعامل مع النصوص الصوفية على أنها خيالات وأنها لا تقوم على أدلة فيفهمها كما وضعها أصحابها، لا ينطلق من منطلقات هو نشأ عليها وهو أن يكون منطقيًا، مرتبًا، منهجيًا، حتى يصل من المقدمات إلى النتائج، كلا، التصوف ليس هكذا، فكل ما يُطرح ليس عليه دليل، هي أمور كما قلت فلسفية والعجب أن الفلاسفة يدّعون أنهم أهل المعقولات ومع ذلك يتطابقون مع الصوفية، بل الصوفية فلاسفة في إلغاء العقل تمامًا بإقرار واعتراف في مسائل أصولية، عقدية، تتعلق بالكون وبالإله وبالإنسان وبالعالم ليس لها أي مستند صحيح يمكن أن يُبنى عليه، ولذلك يتخلصون من العقل تمامًا ومن العلم تمامًا ويتنكّرون لهذه الأصول ويبنون على الذوق والكشف والإلهام ونحو ذلك ويعيشون في خيالات.
فلا بد من فهم هذه القضية حيال التصوف حين الاطلاع على منتوجهم لئلا يُصاب الإنسان بربكة ذهنية أو فكرية حينما يتناول كلامهم ومثل هذا الكتاب وعرض ما عندهم من أفكار حتى لا يدخل في نوع من الاضطراب، يريد أدلة منطقية ولا يجدها ويظن بنفسه سوءًا في الفهم، بينما الحقيقة السوء فيما عُرض أصلًا، ما عُرض يريد أن يقول أن الإنسان يفنى في الذات الإلهية، هذه القضية غير منطقية أصلًا، يريد أن يتشبه بالإله تشبهًا كاملًا، هذه قضية غير منطقية.
هؤلاء يقولون إن الإنسان يريد أن يرتقي يعني من كونه مخلوقًا عبدًا إلى أن يتحدّ بالخالق ويكون بذلك إلاهًا ربًّا يعني هو يصبح إلهي، إلهي التكوين بعد أن كان بشري التكوين بسبب أنه اتحدّ، بسبب أنه رجع.
فالمقصود هنا إذا رجعنا إلى الإنسان الكامل وهي بحسب عرض الصوفية إيصال الخلق الإنسان الذي هو غير كامل، إيصاله إلى الحق، إيصاله بمعنى تعريفه بأسمائه وصفاته ثم القيام على عملية التشبّه ليحصل من وراء ذلك الفناء، وهذا هو غاية الصوفي وهذا مطلوبه.
كما قالوا: "يبقى من لم يزُل، ويفنى من لم يكن" من لم يكن ما هو؟
المخلوق الإنسان، هذا يفنى، ويبقى من لم يزل هو الحق، فأين يفنى هذا ويبقى أين؟ يفنى عن ذاته البشرية، يتخلص من تكوينه الجسدي السفلي ويكون روحانيًا محضًا حتى يتأهل للاتحاد والفناء بالأقدس بالحق، وحينذاك يصبح روحانيًا تامًا ويتخلص من الجسد فيرجع كما كان على النظرة الصوفية القديمة والفلسفية أن الكون كله كان روحانيًا محضًا ثم بعد ذلك انفصلت هذه الجزئيات ومنها الإنسان والبشر انفصلوا عن هذا الروحاني الأكبر الأقدس كجزئيات وتلبست بهذه الغلف والأجساد والسفليات فشقيت، تريد أن تسترجع مكانتها الأولى وتتخلص من هذه السفليات التي شقيت بها فتعمل على التخلص، بأي طريقة يتخلصون؟
بالتشبه، فإذا قالوا "التخلّق بأخلاق الله" وفي التعريف الفلسفي "ألتشبُّه بالإله على قدر الطاقة" فيعمل على التشبه حتى يصل إلى أن يتخلص من جسده من أحكام الجسد ويصبح روحانيًا محضًا وحينذاك ينتقل إلى الوضع الأول "ويبقى من يزُل، ويفنى من لم يكن".
وهذه العملية التي يمارسها الإنسان قد يمارسها بطريقة فيها كثير من المجاهدة وهذا ما كان عليه المتصوفة الأوائل: فيها تقشف ومجاهدة وعزلة وسياحة، فيها تعذيب للبدن، لكن هذه القضية تحولت لاحقًا أو ظهر فيها سبيل آخر ربما لم يكن واضحًا في البداية لأمر ما، وهو أنه يمكن أن يصل إلى هذه الدرجة من التمكّن، من التشبّه ومن الفناء من غير مجاهدة أصلًا، بأعمال ذهنية وأبرز من أوضح هذا ابن عربي وإن كان ذلك بادرًا وباديًا في كلام المتقدمين كأبي الحسين النوري عندما عرّف التصوف بانه ليس مجاهدة وليس علم، يعني ليس هناك أمر يحتمل فيه المجاهدة والمشقّة والتعب حتى يصل إلى ما يريد بل هو تخلّق بأخلاق الله سبحانه وتعالى.
فالنوري يقول: "ليس التصوف رسمًا ولا علمًا ولكنه خُلق، لأنه لو كان رسمًا لحُصّل بالمجاهدة، ولو كان علمًا لحُصّل بالتعليم، ولكنه تخلق بأخلاق الله ولن تستطيع أن تُقبل على الأخلاق الإلهية بعلم أو رسم"
فهذا متقدم وهو من الصوفية الأوائل في الطبقة الأولى أو الثانية، ويقول هذا الكلام الذي يُعرّي ويسلب التصوف ناحية المجاهدة وتعب البدن من عزلة وسياحة وجوع وعريِّ وإلى غير ذلك، وفقر، يُعرّي ذلك كله ويقول مجرد تخلق بأخلاق الله.
وابن عربي يوضح ذلك أنه يمكن أن يكون الأمر ذهنيًا، إذاً يمكن أن يُحصّل هذا الأمر بطريقة ذهن والعمليات الذهنية الفلسفية المحضة، ولها طرقها وهي موجودة في كلامهم كما في كتاب حيّ بن يقظان الذي ألّفه ابن طفيل في تفصيل هذه الطريقة التي فيها التشبه بالإله والتخلّق بأخلاق الله سبحانه وتعالى.
ثم إنهم يقولون في طرق الوصول إلى الكمال الإنساني، وعرفنا ما معنى الكمال، هو الفناء في الذات الإلهية وفي الصفات الإلهية بحسب ما يقول المتصوفة وإن كان الفكر الصوفي هو فناء في الذات الإلهية.
يقولون إن ذلك إما طريق الإنسان الكامل القائم والحقيقة المحمدية أو نوابه، أو من خلال الإنسان في نفسه، متى يكون من خلال الإنسان في نفسه؟
إذا أدرك أنه كامل، إدراكه يحمله على أن يتشبه لا أدري بنفسه او بمن لكن أن يدرك أنه كامل وحين ذاك تنكشف له الأمور الإلهي ويدرك أنه إلهي الأروما والجذر، وإذا لم يحصل له هذا فإن له طريق آخر وهو الإنسان الكامل ماثل أمامه من شيخ أو وليّ وحقيقة محمدية تمثلت في هؤلاء المشايخ بينما يتخذهم سلمًا ليصل إلى الحق من خلال الفناء، فهما طريقان: طريق النفس أو من طريق الإنسان الكامل القائم.
وكما ذكرت في أول كلامي فإنه إذا حصل إلى مثل هذا ووصل إلى درجة الكمال فهذا هو الخلاص وهذه النهاية، أي هذه هي القيامة، ومنه نفهم أن الصوفية ليست عندهم قيامة، ليست قيامة بمعنى حشر الأجساد والأرواح، عند أهل الإسلام أن الحشر يكون بالأجساد والأرواح، لكن عند الفكر الصوفي الموافق للفكر الفلسفي الحشر روحيّ، فالحشر والقيامة والمعاد روحانيّ وليس جسدي، ومن ثم هذا الصوفي الفيلسوف يمكن أن يصل إلى قيامته إلى نهايته إلى الخلاص وهو حيّ، ولا يلزم من ذلك أن يموت، وإذا مات وصل أيضًا، لكن يمكن أن يكون حيًّا ويصل إلى درجة الفناء في الذات الإلهية وذلك لما ظن أبو يزيد أنه وصل والحلاج والشيلي الذي قال: "أنا الله، ما في الجبة إلا الله".
منه نفهم أن حقيق الفكر الصوفي لا يؤمن بوجود جنة ولا نار، لأن الجنة والنار عندهم معدن، معدن تمتّع الحواس وليس الروح، ولذلك من فهم منهم حقيقة الفكر الصوفي هكذا نفى الجنة والنار، وقال المعاد روحاني، كما شهد عليهم الغزالي.
ومن لم يفهم منهم أو كان متسترًا يريد أن يغطّي على الفكرة في حقيقتها صار يطعن ويستهزئ بنعيم الجنة وعذاب النار، ويقول: ما النار؟ لعبة الصبيان، أُطفيها بريقي أو أنفخ فيها فتنطفئ، أنصب عليها عندها خيمتي.
ما الجنة؟ الجنة معدن تمتع الحواس: الفرج والبطن. وهكذا من هذه العبارات التي فيها ليس فيها تطلّع إلى الجنة ولا خوف من النار، والعبارة المشهورة عندهم: "أعبدك لا خوفًا من نارك ولا طمعًا في جنتك إنما هو في هذا السياق".
فالصوفي يريد أن يصل بالتشبه إلى درجة أنه يستغني عن الجنة والنار، بمعنى أنه يريد أن يكون مثل كالإله في عدم الحاجة إلى نعيم أو خوف من عذاب، يريد أن يتحقق بالصفات الإلهية كليًّا. وهذا ما تقدم معنى الفناء في الذات الإلهية حتى يكون إلهيًّا في جذره وفي أصله، وحينذاك لا يحتاج إلى جنة ولا إلى نار، يعني لا يرغب لا في جنة ولا سخاف نار.
هذا حقيقة التشبه بالإله على قدر الطاقة، أن يكون إلهيًا، ولذلك لم يكن عندهم معاد روحاني ولذلك استهانوا بالجنة وبالنار.
وهذا طائفة من الصوفية قالوها من غير وعي بحقيقة الفكرة، وأن الفكرة مقصودها أن يكون إلهيًا وحينئذٍ يستغني عن الجنة والنار، وطائفة فهموا هذا وصاروا يتكلمون بالكلام الذي يقيهم ويحميهم من المسائلة الشرعية، فإن إنكار الجنة وإنكار النار أمر كفريّ متفق على أن من أنكرهما كافر، هذا اتفاق المسلمين عليه.
فيصعب إنكار مثل هذه الأصول بين المسلمين فكان الطريق الذي ارتضاه هؤلاء الطعن في نعيم الجنة والاستهزاء بعذاب النار، على اعتبار أنهم ارتقوا عن هذه المبادئ أو هذه المقامات إلى مقام أعلى وهو حبّ الذات الإلهية وذلك أغناهم عن الجنة والنار، وهذه الفكرة لأول وهلة لمن لم يتأملها يظن أنها سامية، لكن في حقيقة الأمر هي تنصيب الإنسان مقام مكان الإله.
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وصلّ الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

القياس هو إلحاق أمر بآخر في الحكم الشرعي لاتحاد بينهما في العلة. والقياس يأتي في المرتبة الرابعة بعد الكتاب والسنة والإجماع من حيث حجيته في إثبات الأحكام الفقهية، ولكنه أعظم أثرًا من الإجماع لكثرة ما يرجع إليه من أحكام الفقه؛ لأن مسائل الإجماع محصورة ولم يتأت فيها زيادة لانصراف علماء المسلمين في مختلف الأقطار من مبدأ المشورة العلمية العامة ولتعذر تحققه بمعناه الكامل فيما بعد العصر الأول كما أوضحناه، أما القياس فلا يشترط فيه اتفاق كلمة العلماء بل كل مجتهد يقيس بنظره الخاص في كل حادثة لا نص عليها في الكتاب أو السنة ولا إجماع عليها. ولا يخفى أن نصوص الكتاب والسنة محدودة متناهية، والحوادث الواقعة والمتوقعة غير متناهية فلا سبيل إلى إعطاء الحوادث والمعاملات الجديدة منازلها وأحكامها في فقه الشريعة إلا عن طريق الاجتهاد بالرأي الذي رأسه القياس، فالقياس أغزر المصادر الفقهية في إثبات الأحكام الفرعية للحوادث وقد كان من أسلوب النصوص المعهودة في الكتاب والسنة أن تنص غالبًا على علل الأحكام الواردة فيها، والغايات الشرعية العامة المقصودة منها ليمكن تطبيق أمثالها وأشباهها عليها في كل زمن. ونصوص الكتاب معظمها كلي عام وإجمالي كما رأينا، فانفتح بذلك طريق قياس غير المنصوص على ما هو منصوص، وإعطاؤه حكمه عند اتحاد العلة أو السبب فيهما، ووقائع القياس في فقه الشريعة الإسلامية لا يمكن حصرها، فإن منها يتكون في الجانب الأعظم من الفقه، ولا يزال القياس يعمل باستمرار في كل حادثة جديدة في نوعها لا نص عليها، ومن أمثلة ذلك أنه ورد في الشريعة نصوص كثيرة في أحكام البيع أكثر مما ورد بشأن الإجارة، فقاس الفقهاء كثيرًا من أحكام الإجارة على أحكام البيع؛ لأنها في معناه إذ هي في الحقيقة بيع المنافع، وكذلك ورد في الشريعة الإسلامية نصوص وأحكام بشأن وصي اليتيم عينت وضعه الحقوقي ومسؤوليته وصلاحيته، فقاس الفقهاء على أحكام الوصي وأحكام متولي الوقوف للشبه المستحكم بين الوظيفتين، كما قاسوا كثيرًا من أحكام الوقف نفسه على أحكام الوصية. المكتبة الشاملة، الفقه والشريعة، ص ٣٨-٤٠.

فَصَّل ابن القيم رحمه الله المسألة تفصيلاً جيدًا؛ فقال: بعضهم قال بجواز أن يقال: فلان «خليفة الله» في أرضه، لقوله تعالى للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وبقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ} [فاطر: 39] وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله مُمَكِّنٌ لكم في الأرض، ومستخلفكم فيها فناظِرٌ كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء" وَمَنَعَتْ طَائفة هذا الإطلاق، وقالت لا يقال لأحد إنه خليفة الله؛ فإن الخليفة إنما يكون عمن يغيب، ويَخْلُفُه غَيْرُه، والله تعالى شاهدٌ غيرُ غائب، قريبٌ غير بعيد، راءٍ وسامع؛ فمحال أن يَخْلُفَهُ غيرُهُ؛ بل هو سبحانه الذي يَخْلُف عبده المؤمن، فيكون خليفته؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الدجال: "إنْ يَخرُج وأنا فيكم فأنا حَجِيجُه دونكم، وإن يَخرُج ولست فيكم فامرؤ حَجِيجُ نَفْسِه، والله خليفتي على كُلِّ مؤمن" (والحديث في الصحيح). وفي صحيح مسلم أيضًا من حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا سَافَرَ: "اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل والمال) قالوا: وأما قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} فلا خلاف أن المراد به آدم وذريته، وجمهور أهل التفسير من السلف والخلف على أنه جعله خليفة عمَّن كان قَبْلَه في الأرض؛ وأما قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ} فليس المراد به خلائف عن الله، وإنما المراد به أنه جعلكم متعاقِبِينَ؛ يَخْلُف بعضُكم بعضًا، فكلَّما هَلَكَ قَرْنٌ خَلَفَه قَرْنٌ إلى آخر الدهر. إلى أن قال ابن القيم: "فإن أُرِيد بالإضافة إلى الله أنه خليفة عنه، فالصوابُ قولُ الطائفة المانعة منها، وإن أريد بالإضافة أن الله استخلفه عن غيره ممن كان قبله، فهذا لا يمتنع فيه الإضافة، وحقيقتها خليفة الله الذي جعله الله خَلَفًا عن غيره مِفتاح دار السعادة ص/427 - 428

لا يوجد مناقشات

ص/270-278
مقصود الصوفية من الخلافة، الخلافة عن الله، في تصريف وتدبير الكون المتحققة في الإنسان الكامل الجامع لأسماء الله وصفاته، مستندين إولاً على الكشوفات والإلهام.
وثانياً: على نصوص خص الله بها بعض عباده وأنبيائه، مثل الكرامات التي أعطيت لعيسى عليه السلام.
وثالثاً: ما أوكل الله للملائكة من أعمال كونية.
وأفرطوا غاية الإفراط في هذا الجانب فهم قاسوا ما جاء في حالات أو لأشخاص على جميع أولياء الصوفية من غير حد ولا دليل
ص/292
((علّق علي ملاّ قاري على هذا فقال:فعُلم أنه كان من الكاذبين أو من جملة المذبذين ، ولابن عربي كلام فيه إقرار على نفسه، بأنه يجيب كل سائل جواباً يليق به ، تماماً كما ذكر العلماء عنه آنفاً))

الإنسان الكامل في الفكر الصوفي.
د.لطف الله خوجه.
ص/280
((فلو وقفوا عند الفهم الصحيح لحقيقة وظائف المخلوقات الموكلة إليهم من قبل الله تعالى :
*أنها محدودة غير مطلقة في نوعها وكمها .
*وأنها لاتعدو أن تكون مأمورة ، ليس لها من الأمر شيء ، وأن ذلك لايسوّغ عبادتها ، وقاسوا أولياؤهم على هذا المعنى بدقة ، لفهموا :
أن اختصاص الملائكة والأنبياء ببعض الخصائص،ليست سبيلا ولا سبباً صحيحاً للتوجه إليهم بالعبادة.))

الإنسان الكامل في الفكر الصوفي
د.لطف الله خوجه.
لا يوجد استفسارات