-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
ابتداءً أشكر الأخوات في مركز رسيل على هذه المبادرة القيّمة وأسأل الله أن يرزقنا جميعًا العلم النافع والعمل الصالح والتوفيق لما يحبه ويرضاه .
هذا الموضوع لا شك أنه في غاية الأهمية, تأصيل مصادر المعرفة في الإسلام أمر مهم خصوصًا و أن هناك مشاريع حداثية تأثر بها كثير من الشباب سببت لهم إشكالات في هذا الأمر, و هذه المشاريع الحداثية تدور حقيقة حول الموقف من الدين بأساليب مختلفة لكنها تصب في النهاية في التشكيك في هذا الدين فمثلًا نجد أن مشروع محمد أركون ينتهي إلى الآدمية والتشكيك في الثوابت وكذلك مشروع حسن حنفي ينتهي إلى التشكيك في أصول الاعتقاد وربطها بالواقع ونصر أبو زيد كذلك يؤكد على قضية لا نهائية المعنى والنص المفتوح كما يقال واعتبار أن هذه النصوص تاريخية لها ظروف معينة وبيئة ثقافية وُجدت فيها وأنها لا تصلح لوقتنا, وكذلك محمد الجابري له توجه في هذا وإن كان أخفهم فيما يتعلق بالتشكيك في الدين لكنه أخطرهم فيما يتعلق بالتأثير على الشباب؛ لسهولة أسلوبه و تركيزه على القول بظنية النتائج التي تُنبني على المنهج -كما يسميه البياني- وهي العلوم الإسلامية في الجملة
الشاهد أن هذه المشاريع انتشرت بين الشباب وأثرت تأثيرًا بالغًا ولا بد أن تكون هناك مواجهة حقيقية صارمة.
قبل فترة لم يكن هناك اهتمام بهذا الجانب كما ينبغي لكن و لله الحمد هناك اتجاه من كثير من الشباب سواء في رسائل جامعية أو في غيرها من التصدي لهذه المشاريع و الإشكالات التي انبنت عليها وهذا لا شك أنه مهم لكنه يحتاج إلى متابعة و إلى استمرار.
هناك أيضًا إشكالات إلحادية كما تعرفون في كثير من حسابات التويتر وفي الفيسبوك وفي الكتب المترجمة وما إلى ذلك, والشباب قد تأثروا بهذا كثيرًا.
وفي الفترة الأخيرة أقولها وبصراحة هناك اتصالات غريبة تصل تسأل عن وجود الله بإلحاح تريد أن تعرف الجواب وأن هناك إشكالات لم تجد عند المشايخ الجواب عنها, وأخيرًا اتصل عليّ أحد الشباب يقول بأنه لا يؤمن بوجود الله أصلًا, ومع ذلك فهو مدرّس للعلوم الشرعية في أحد مدراسنا! فمثل هذه القضايا لا شك أنها تحتاج إلى اهتمام بالغ وهناك حلقات فلسفية تهتم بهذا الجانب لكن على منحى خطير جدًا في بعض النوادي وبعض الملتقيات تُدار حلقات فلسفية تنافش المسائل الدينية بكل تحرر وعدم انضباط وهذه كلها إشكالات ينبغي أن نواجهها و أن نعرف قدرها.
والطريقة التي يسلكها بعض المشايخ لا شك أنها لا تؤدي الغرض وأن الاكتفاء بمجرد التأصيل العلمي في المسائل الشرعية وإن كان مهمًا في غاية الأهمية لكنه لا يكفي في هذا الجانب.
كان هذا هو الدافع الأساس حقيقة للكتابة في هذا الباب, والكتاب الذي عليه التداول والحوار بيننا هو كتاب ( المعرفة في الإسلام مصادرها و مجالاتها ) ينحى إلى منحى التأصيل العلمي للقضايا الشرعية في ما يتعلق بمصادر المعرفة سواءً كان في تأصيل ما يتعلق بالوحي من جهة ثبوته ومن جهة المجالات التي يختص بها وما إلى ذلك والعلاقة بين العقل والنقل.
فالقضية الأخرى أيضًا فيما يتعلق بالمعرفة الفطرية وتأصيلها والبحث في الأدلة الدالة عليها.
والأمر الثالث الذي هو المعرفة العقلية و تأصيلها, فهذه ثلاثة جوانب تركّز عليها التأصيل في هذا الكتاب.
و مع ذلك فهناك أمر آخر كنت أؤكد عليه في الكتاب و هو بيان الموقف من الاتجاهات سواءً الفلسفية أو الكلامية أو الصوفية سواءً كانت داخل الاتجاه الإسلامي أو الفكر الإسلامي أو خارج الفكر الإسلامي حتى يتبين أنه ليس بمجرد التأصيل للمنهج الإسلامي فيما يتعلق بهذه القضية الإشكالية الكبرى يمكن أن يكون هناك وضوح بل لا بد من الكشف والبيان للأغلاط التي توجد في الاتجاهات المخالِفة, ومع ذلك كان لا بد من التركيز على قضية مهمة جدًا -مع تأصيل للقضايا الشرعية وبيان الموقف من المناهج المخالفة- كان لا بد من إظهار خاصية التكامل بين مصادر المعرفة في المنهج الإسلامي وأنه لا تعانُد و لا تناقُض بين الوحي والفطرة والعقل، وأن الإدراك الحسي أيضًا لا يستقل بالمعرفة ولا يسمى معرفة مستقلة كما يظنه الاتجاه التجريبي, وأن كل هذه المصادر تتضافر وتصل في النتيجة إلى حقائق ثابتة مضطردة متوافقة لا متعاندة .
ومن خلال التأمل في واقع الناس وما بينهم من اختلاف سواءً كان الاختلاف دينيًا أو في المذاهب الفلسفية وغيرها وجدتُ أن هناك اتجاهات متباينة يمكن حصرها في أربعة اتجاهات :
فهناك أولًا : الاتجاه الشكيالذي يعتمد على السفسطة, وهذا و إن كان وُجد قديمًا عند اليونان على ندرة قبل ظهور الفلسفة اليونانية عند سقراط وأفلاطون وأرسطو إلا أنه هو الغالب اليوم في الفلسفة الغربية المعاصرة التي انتشرت وأثرت كثيرًا في الاتجاهات الحداثية وغيرها, وأصبحت العدمية والنسبية مؤثرة كثيرًا على كثير من المفكرين الذين تأثروا بالفكر الغربي سواءً شعروا أو لم يشعروا.
فوق ذلك هناك الاتجاه التجريبيالذي يقوم على اعتبار التجربة العلمية هي الأساس والحد الفاصل بين ما يُقبل و ما لا يُقبل في كل ما يدار البحث حوله, ولو تأملنا في الواقع المعاصر للعلوم لوجدنا للعلوم سواءً ما يسمى بالعلوم الطبيعية؛ كعلم الفيزياء والأحياء وما إليها, وما يقابلها مما يسمى بالعلوم الإنسانية؛ كعلم الاجتماع وعلم النفس وما إلى ذلك, لوجدنا أنها في الغالب تستند إلى قاعدة مادية لا تؤمن باستقلال الإنسان عن أن يكون ضمن الطبيعة وأنه يحاكَم إلى تلك القواعد, وهذه القضية الخطيرة جدًا أشار إليها و كرّر القول فيها الدكتور عبد الوهاب المسيري و أنا أنصح بقراءته وخصوصًا في الموسوعة ومن لا يستطيع الرجوع إلى الموسوعة فهناك كتب كثيرة ذكر فيها هذا وكرر القول فيه كما ذكرت خصوصًا كتابه عن العلمانية, و إن كان عنده بعض الإشكالات, لكن هذه القضية الخطيرة جدًا وهي محورية الخطاب الغربي وأنها تدور حول فكر مادي لا يؤمن بخاصية الإنسان و أن هذا له خطورته في مجال النتائج التي تنتُج في علم الاجتماع في علم النفس في مجالات كثيرة تتعلق بما يسمونه العلوم الإنسانية كما ذكرت .
المقصود أن هذا الكتاب وهو [كتاب المعرفة في الإسلام] يدور حول تحرير الموقف من هذا الاتجاه التجريبي وبيان الأساس الفلسفي الذي يقوم عليه وبيان أن هذا الاتجاه يقع في معضلة كبيرة حين لا يعترف بالأحكام الضرورية والكلية, ومن هنا كان بيان الموقف أيضًا من الاتجاه الثالثوهو الاتجاه العقليالذي يؤمن بالضرورة و الأحكام الكلية لكنه يقف عندها دون أن يأخذ بلوازمها.
فلا شك أن من يعطي هذا الاتجاه حقه من النظر والاستدلال ويأخذ بلوازمه سيصل إلى إثبات الحقائق الدينية التي جاءت بها الأديان من الاعتراف بربوبية الله سبحانه وتعالى وإثبات النبوة وما إلى ذلك .
لكن أصحاب الاتجاه العقلي -يعني في الغالب- لا يأخذون بهذه اللوازم و يقفون عند حدود الاستدلال العقلي في إطار الاتجاه المادي فقط, ولا شك أن هذا قصور كبير ولذلك نجد أن في التيار المعاصر الإلحادي ما يسمى بالاتجاه الربوبي, مثال ذلك: الاتجاه الذي يوجِد عند كانت وله كتاب مشهور [ الدين في حدود العقل] فهؤلاء يظنون أنهم بمجرد اعترافهم بوجود الخالق دون أن يعترفوا بالأديان ولا يلتزموا بشرائع أنهم قد أوفوا الاستدلال العقلي حقه مع أن هذا لا شك قصور كبير.
الاتجاه الرابع: هو الاتجاه الدينيالذي يتجاوز الشك ويتجاوز الاتجاه التجريبي في الانحصار وقصر المعرفة على الخبرة الحسية وأيضًا تجاوُز ما انتهى إليه أصحاب الاتجاه العقلي من الاستدلال أو الوصول إلى الحُكم ا(لأحكام الضرورية والكلية) دون أن يوفوها حقها كما ذكرت والبناء على ذلك بالاستدلال على وجود الله والاستدلال على النبوة والبناء العلمي الصحيح إلى إثبات الحقائق الدينية, لكن أيضًا في الاتجاه الديني يعني كما تعرفون هناك أديان متباينة فلا بد أن يكون هناك أيضًا تأصيل للموقف الإسلامي في مقابل الأديان المخالفة, فهذه الاتجاهات الأربعة كما نلاحظ كل اتجاه له من يحامي عنه ويدافع عنه والاتجاه الإسلاميفي ضمن هذه الاتجاهات يحتاج فعلًا إلى جانب يكون فيه تأصيل لمصادر المعرفة فيه ويكون فيه نقاش وحوار ومناقشة لجميع هذه الاتجاهات المخالفة له .
بناءً على ذلك حاولت أن يوفي الكتاب بهذا الغرض فتأسس الكتاب على ثلاثة أبواب:
الباب الأولعن الوحي
و الباب الثانيعن المعرفة الفطرية
و الباب الثالثعن المعرفة العقلية
فيما يتعلق بالوحي كان فيه كلام عن حقيقة الوحي وعن إمكان الوحي ودلائل ثبوته والكلام عن ما يختص به الوحي من المعارف وختم ذلك بالعلاقة بين العقل والنقل لكون هذه قضية إشكالية داخل الفكر الإسلامي نفسه.
وأما الباب الثاني في المعرفة الفطرية وبيان مجالاتها, فكان هناك كلام عن فطرية معرفة الله عز وجل وتوحيده؛ لأنها هي القضية المهمة التي ينبغي التأكيد علبها وهناك كلام عن فطرية التحسين والتقبيح وهذه قضية فيها إشكال مع الأشاعرة خصوصًا أو التوجهات الكلامية ولا أدري إذا كان هناك إمكان للتجاوز لبعض المسائل الدقيقة التي هي ربما لا تُناسب الطرح العام فيُترك هذا لوقته.
وأيضًا كان هناك كلام عن المبادئ الأولية لبناء المعرفة العقلية على مبادئ هي الأساس الذي تُبنى عليه المعارف العقلية.
بعد ذلك كان الانتقال إلى المعرفة العقلية نفسها ببيان طبيعة الإدراك الحسي وأنه ضرورة للمعرفة, لكن المعرفة لا تقف عنده, وبيان التجريد العقلي للكليات والتفريق بين التصور الجزئي للأمور الجزئية الواقعية في الخارج والتصورات الكلية وهذه فيها مدارس واتجاهات, وهناك أيضًا تعرض لمسألة كبيرة وإشكالية يدور حولها إشكال كبير للفلسفة المعاصرة وهو الأساس العقلي للاستقرار والبحث في قضية السببية وكيف يمكن الانتقال من الأحكام الجزئية إلى الأحكام الكلية, ثم خُتم الكتاب بالكلام عن الاستدلال العقلي على الغيبيات ولا شك أن الاستدلال العقلي على الغيبيات ليس محصورًا في دلالة العقل وإنما هو من خلال دلالات النصوص والكشف عن ما تدل عليه النصوص في بيان الدلائل على وجود الله عز و جل وعلى وحدانيته سبحانه وتعالى وعلى صفاته التي يمكن إدراكها بالعقل وعلى البعث والجزاء وما إلى ذلك .
زيادة على ما سبق الكلام عنه في الباب الأول على الدلائل العقلية على النبوة و بهذا تكتمل الصورة في هذه القضية .
إذًا كان الهدف من الكتاب هو التأصيل لهذه الأمور المهمة و أنا أرجو أن يكون الحوار حولها مثمرًا و نافعًا.
بالنسبة لطبعات الكتاب, الكتاب طُبع أولًا في دار عالم الفوائد ثم طبع طبعات بعد ذلك في مركز التأصيل, ليس هناك تباين يُذكر بين الطبعات, قد يكون هناك تصحيح لأخطاء طباعية أو حذف لبعض الأمور التي أرى أنها غير مهمة مثلًا في الهوامش فقط وهذه لا يُشكل الأمر فيها فسواءً كان هناك اعتماد على الطبعة الأولى أو طبعات مركز التأصيل لأن هذه الطبعة الثالثة التي صدرت أخيرًا لكن أنا أُفضّل الاعتماد على طبعة مركز التأصيل التي أرسلت لكم الكتاب بهذه الطبعة.
عمومًا أنا أشعر أن هذا التقديم مجرد خواطر عجلى حول قضية لا يمكن الكلام حولها هكذا بهذه الطريقة و إنما هي لمجرد افتتاح الكلام في هذه المسائل .
أختم بسؤال الله عز وجل أن تكون هذه المجالس مباركة وأن ينفع الله عز وجل بها وأن يوفقنا جميعًا إلى ما يحبه ويرضاه وإلى أن نلتقي في قضايا الحوارية والمسائل الإشكالية التي تثيرونها ونختم بهذا وصلى الله و سلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
التعريف بالكتاب
بصوت المؤلف
119300:00
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
ابتداءً أشكر الأخوات في مركز رسيل على هذه المبادرة القيّمة وأسأل الله أن يرزقنا جميعًا العلم النافع والعمل الصالح والتوفيق لما يحبه ويرضاه .
هذا الموضوع لا شك أنه في غاية الأهمية, تأصيل مصادر المعرفة في الإسلام أمر مهم خصوصًا و أن هناك مشاريع حداثية تأثر بها كثير من الشباب سببت لهم إشكالات في هذا الأمر, و هذه المشاريع الحداثية تدور حقيقة حول الموقف من الدين بأساليب مختلفة لكنها تصب في النهاية في التشكيك في هذا الدين فمثلًا نجد أن مشروع محمد أركون ينتهي إلى الآدمية والتشكيك في الثوابت وكذلك مشروع حسن حنفي ينتهي إلى التشكيك في أصول الاعتقاد وربطها بالواقع ونصر أبو زيد كذلك يؤكد على قضية لا نهائية المعنى والنص المفتوح كما يقال واعتبار أن هذه النصوص تاريخية لها ظروف معينة وبيئة ثقافية وُجدت فيها وأنها لا تصلح لوقتنا, وكذلك محمد الجابري له توجه في هذا وإن كان أخفهم فيما يتعلق بالتشكيك في الدين لكنه أخطرهم فيما يتعلق بالتأثير على الشباب؛ لسهولة أسلوبه و تركيزه على القول بظنية النتائج التي تُنبني على المنهج -كما يسميه البياني- وهي العلوم الإسلامية في الجملة
الشاهد أن هذه المشاريع انتشرت بين الشباب وأثرت تأثيرًا بالغًا ولا بد أن تكون هناك مواجهة حقيقية صارمة.
قبل فترة لم يكن هناك اهتمام بهذا الجانب كما ينبغي لكن و لله الحمد هناك اتجاه من كثير من الشباب سواء في رسائل جامعية أو في غيرها من التصدي لهذه المشاريع و الإشكالات التي انبنت عليها وهذا لا شك أنه مهم لكنه يحتاج إلى متابعة و إلى استمرار.
هناك أيضًا إشكالات إلحادية كما تعرفون في كثير من حسابات التويتر وفي الفيسبوك وفي الكتب المترجمة وما إلى ذلك, والشباب قد تأثروا بهذا كثيرًا.
وفي الفترة الأخيرة أقولها وبصراحة هناك اتصالات غريبة تصل تسأل عن وجود الله بإلحاح تريد أن تعرف الجواب وأن هناك إشكالات لم تجد عند المشايخ الجواب عنها, وأخيرًا اتصل عليّ أحد الشباب يقول بأنه لا يؤمن بوجود الله أصلًا, ومع ذلك فهو مدرّس للعلوم الشرعية في أحد مدراسنا! فمثل هذه القضايا لا شك أنها تحتاج إلى اهتمام بالغ وهناك حلقات فلسفية تهتم بهذا الجانب لكن على منحى خطير جدًا في بعض النوادي وبعض الملتقيات تُدار حلقات فلسفية تنافش المسائل الدينية بكل تحرر وعدم انضباط وهذه كلها إشكالات ينبغي أن نواجهها و أن نعرف قدرها.
والطريقة التي يسلكها بعض المشايخ لا شك أنها لا تؤدي الغرض وأن الاكتفاء بمجرد التأصيل العلمي في المسائل الشرعية وإن كان مهمًا في غاية الأهمية لكنه لا يكفي في هذا الجانب.
كان هذا هو الدافع الأساس حقيقة للكتابة في هذا الباب, والكتاب الذي عليه التداول والحوار بيننا هو كتاب ( المعرفة في الإسلام مصادرها و مجالاتها ) ينحى إلى منحى التأصيل العلمي للقضايا الشرعية في ما يتعلق بمصادر المعرفة سواءً كان في تأصيل ما يتعلق بالوحي من جهة ثبوته ومن جهة المجالات التي يختص بها وما إلى ذلك والعلاقة بين العقل والنقل.
فالقضية الأخرى أيضًا فيما يتعلق بالمعرفة الفطرية وتأصيلها والبحث في الأدلة الدالة عليها.
والأمر الثالث الذي هو المعرفة العقلية و تأصيلها, فهذه ثلاثة جوانب تركّز عليها التأصيل في هذا الكتاب.
و مع ذلك فهناك أمر آخر كنت أؤكد عليه في الكتاب و هو بيان الموقف من الاتجاهات سواءً الفلسفية أو الكلامية أو الصوفية سواءً كانت داخل الاتجاه الإسلامي أو الفكر الإسلامي أو خارج الفكر الإسلامي حتى يتبين أنه ليس بمجرد التأصيل للمنهج الإسلامي فيما يتعلق بهذه القضية الإشكالية الكبرى يمكن أن يكون هناك وضوح بل لا بد من الكشف والبيان للأغلاط التي توجد في الاتجاهات المخالِفة, ومع ذلك كان لا بد من التركيز على قضية مهمة جدًا -مع تأصيل للقضايا الشرعية وبيان الموقف من المناهج المخالفة- كان لا بد من إظهار خاصية التكامل بين مصادر المعرفة في المنهج الإسلامي وأنه لا تعانُد و لا تناقُض بين الوحي والفطرة والعقل، وأن الإدراك الحسي أيضًا لا يستقل بالمعرفة ولا يسمى معرفة مستقلة كما يظنه الاتجاه التجريبي, وأن كل هذه المصادر تتضافر وتصل في النتيجة إلى حقائق ثابتة مضطردة متوافقة لا متعاندة .
ومن خلال التأمل في واقع الناس وما بينهم من اختلاف سواءً كان الاختلاف دينيًا أو في المذاهب الفلسفية وغيرها وجدتُ أن هناك اتجاهات متباينة يمكن حصرها في أربعة اتجاهات :
فهناك أولًا : الاتجاه الشكيالذي يعتمد على السفسطة, وهذا و إن كان وُجد قديمًا عند اليونان على ندرة قبل ظهور الفلسفة اليونانية عند سقراط وأفلاطون وأرسطو إلا أنه هو الغالب اليوم في الفلسفة الغربية المعاصرة التي انتشرت وأثرت كثيرًا في الاتجاهات الحداثية وغيرها, وأصبحت العدمية والنسبية مؤثرة كثيرًا على كثير من المفكرين الذين تأثروا بالفكر الغربي سواءً شعروا أو لم يشعروا.
فوق ذلك هناك الاتجاه التجريبيالذي يقوم على اعتبار التجربة العلمية هي الأساس والحد الفاصل بين ما يُقبل و ما لا يُقبل في كل ما يدار البحث حوله, ولو تأملنا في الواقع المعاصر للعلوم لوجدنا للعلوم سواءً ما يسمى بالعلوم الطبيعية؛ كعلم الفيزياء والأحياء وما إليها, وما يقابلها مما يسمى بالعلوم الإنسانية؛ كعلم الاجتماع وعلم النفس وما إلى ذلك, لوجدنا أنها في الغالب تستند إلى قاعدة مادية لا تؤمن باستقلال الإنسان عن أن يكون ضمن الطبيعة وأنه يحاكَم إلى تلك القواعد, وهذه القضية الخطيرة جدًا أشار إليها و كرّر القول فيها الدكتور عبد الوهاب المسيري و أنا أنصح بقراءته وخصوصًا في الموسوعة ومن لا يستطيع الرجوع إلى الموسوعة فهناك كتب كثيرة ذكر فيها هذا وكرر القول فيه كما ذكرت خصوصًا كتابه عن العلمانية, و إن كان عنده بعض الإشكالات, لكن هذه القضية الخطيرة جدًا وهي محورية الخطاب الغربي وأنها تدور حول فكر مادي لا يؤمن بخاصية الإنسان و أن هذا له خطورته في مجال النتائج التي تنتُج في علم الاجتماع في علم النفس في مجالات كثيرة تتعلق بما يسمونه العلوم الإنسانية كما ذكرت .
المقصود أن هذا الكتاب وهو [كتاب المعرفة في الإسلام] يدور حول تحرير الموقف من هذا الاتجاه التجريبي وبيان الأساس الفلسفي الذي يقوم عليه وبيان أن هذا الاتجاه يقع في معضلة كبيرة حين لا يعترف بالأحكام الضرورية والكلية, ومن هنا كان بيان الموقف أيضًا من الاتجاه الثالثوهو الاتجاه العقليالذي يؤمن بالضرورة و الأحكام الكلية لكنه يقف عندها دون أن يأخذ بلوازمها.
فلا شك أن من يعطي هذا الاتجاه حقه من النظر والاستدلال ويأخذ بلوازمه سيصل إلى إثبات الحقائق الدينية التي جاءت بها الأديان من الاعتراف بربوبية الله سبحانه وتعالى وإثبات النبوة وما إلى ذلك .
لكن أصحاب الاتجاه العقلي -يعني في الغالب- لا يأخذون بهذه اللوازم و يقفون عند حدود الاستدلال العقلي في إطار الاتجاه المادي فقط, ولا شك أن هذا قصور كبير ولذلك نجد أن في التيار المعاصر الإلحادي ما يسمى بالاتجاه الربوبي, مثال ذلك: الاتجاه الذي يوجِد عند كانت وله كتاب مشهور [ الدين في حدود العقل] فهؤلاء يظنون أنهم بمجرد اعترافهم بوجود الخالق دون أن يعترفوا بالأديان ولا يلتزموا بشرائع أنهم قد أوفوا الاستدلال العقلي حقه مع أن هذا لا شك قصور كبير.
الاتجاه الرابع: هو الاتجاه الدينيالذي يتجاوز الشك ويتجاوز الاتجاه التجريبي في الانحصار وقصر المعرفة على الخبرة الحسية وأيضًا تجاوُز ما انتهى إليه أصحاب الاتجاه العقلي من الاستدلال أو الوصول إلى الحُكم ا(لأحكام الضرورية والكلية) دون أن يوفوها حقها كما ذكرت والبناء على ذلك بالاستدلال على وجود الله والاستدلال على النبوة والبناء العلمي الصحيح إلى إثبات الحقائق الدينية, لكن أيضًا في الاتجاه الديني يعني كما تعرفون هناك أديان متباينة فلا بد أن يكون هناك أيضًا تأصيل للموقف الإسلامي في مقابل الأديان المخالفة, فهذه الاتجاهات الأربعة كما نلاحظ كل اتجاه له من يحامي عنه ويدافع عنه والاتجاه الإسلاميفي ضمن هذه الاتجاهات يحتاج فعلًا إلى جانب يكون فيه تأصيل لمصادر المعرفة فيه ويكون فيه نقاش وحوار ومناقشة لجميع هذه الاتجاهات المخالفة له .
بناءً على ذلك حاولت أن يوفي الكتاب بهذا الغرض فتأسس الكتاب على ثلاثة أبواب:
الباب الأولعن الوحي
و الباب الثانيعن المعرفة الفطرية
و الباب الثالثعن المعرفة العقلية
فيما يتعلق بالوحي كان فيه كلام عن حقيقة الوحي وعن إمكان الوحي ودلائل ثبوته والكلام عن ما يختص به الوحي من المعارف وختم ذلك بالعلاقة بين العقل والنقل لكون هذه قضية إشكالية داخل الفكر الإسلامي نفسه.
وأما الباب الثاني في المعرفة الفطرية وبيان مجالاتها, فكان هناك كلام عن فطرية معرفة الله عز وجل وتوحيده؛ لأنها هي القضية المهمة التي ينبغي التأكيد علبها وهناك كلام عن فطرية التحسين والتقبيح وهذه قضية فيها إشكال مع الأشاعرة خصوصًا أو التوجهات الكلامية ولا أدري إذا كان هناك إمكان للتجاوز لبعض المسائل الدقيقة التي هي ربما لا تُناسب الطرح العام فيُترك هذا لوقته.
وأيضًا كان هناك كلام عن المبادئ الأولية لبناء المعرفة العقلية على مبادئ هي الأساس الذي تُبنى عليه المعارف العقلية.
بعد ذلك كان الانتقال إلى المعرفة العقلية نفسها ببيان طبيعة الإدراك الحسي وأنه ضرورة للمعرفة, لكن المعرفة لا تقف عنده, وبيان التجريد العقلي للكليات والتفريق بين التصور الجزئي للأمور الجزئية الواقعية في الخارج والتصورات الكلية وهذه فيها مدارس واتجاهات, وهناك أيضًا تعرض لمسألة كبيرة وإشكالية يدور حولها إشكال كبير للفلسفة المعاصرة وهو الأساس العقلي للاستقرار والبحث في قضية السببية وكيف يمكن الانتقال من الأحكام الجزئية إلى الأحكام الكلية, ثم خُتم الكتاب بالكلام عن الاستدلال العقلي على الغيبيات ولا شك أن الاستدلال العقلي على الغيبيات ليس محصورًا في دلالة العقل وإنما هو من خلال دلالات النصوص والكشف عن ما تدل عليه النصوص في بيان الدلائل على وجود الله عز و جل وعلى وحدانيته سبحانه وتعالى وعلى صفاته التي يمكن إدراكها بالعقل وعلى البعث والجزاء وما إلى ذلك .
زيادة على ما سبق الكلام عنه في الباب الأول على الدلائل العقلية على النبوة و بهذا تكتمل الصورة في هذه القضية .
إذًا كان الهدف من الكتاب هو التأصيل لهذه الأمور المهمة و أنا أرجو أن يكون الحوار حولها مثمرًا و نافعًا.
بالنسبة لطبعات الكتاب, الكتاب طُبع أولًا في دار عالم الفوائد ثم طبع طبعات بعد ذلك في مركز التأصيل, ليس هناك تباين يُذكر بين الطبعات, قد يكون هناك تصحيح لأخطاء طباعية أو حذف لبعض الأمور التي أرى أنها غير مهمة مثلًا في الهوامش فقط وهذه لا يُشكل الأمر فيها فسواءً كان هناك اعتماد على الطبعة الأولى أو طبعات مركز التأصيل لأن هذه الطبعة الثالثة التي صدرت أخيرًا لكن أنا أُفضّل الاعتماد على طبعة مركز التأصيل التي أرسلت لكم الكتاب بهذه الطبعة.
عمومًا أنا أشعر أن هذا التقديم مجرد خواطر عجلى حول قضية لا يمكن الكلام حولها هكذا بهذه الطريقة و إنما هي لمجرد افتتاح الكلام في هذه المسائل .
أختم بسؤال الله عز وجل أن تكون هذه المجالس مباركة وأن ينفع الله عز وجل بها وأن يوفقنا جميعًا إلى ما يحبه ويرضاه وإلى أن نلتقي في قضايا الحوارية والمسائل الإشكالية التي تثيرونها ونختم بهذا وصلى الله و سلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .