-
تفريغ توضيح الورد الرابع الموضوع الذي سنتناوله اليوم هو موضوع مهم؛ لأنه يعطينا تصور عن صفات البيئة التي انتشر فيها الفكر الباطني الذي قدم من الشرق والعوامل التي أثرت في انتشاره في البيئة الغربية . حركة العصر الجديد -كما هو معلوم- هي عبارة عن حركة غربية نشأت في الغرب وانتشرت في الغرب وانتقلت إلى العالم من الغرب, لكنها تأثرت بشكل واضح وظاهر بالفلسفات الشرقية . فما هي العوامل التي أثرت في انتشار الفلسفات الشرقية في بيئة هي في الأصل لا تتبنّى نفس المعتقدات ؟ ولعل النقطة التي يمكن أن ننطلق منها ونقطة البداية في هذه الإشكالية المتأصلة هي ما عنونت له في المطلب بـ(تقلص استقلالية الوحي كمصدر للاعتقاد وسيادة العقل على الدين) . في العالم الغربي كان ثمة انقسام بين المعرفة الدينية وبين المعرفة العقلية والمعرفة الطبيعية, يعني من أراد أن يحصل على معرفة دينية أو معرفة غيبية فإنه يلجأ إلى الكنيسة أو ما يمكن أن نطلق عليه (الوحي) تجوّزًا. ومن أراد المعرفة العقلية أو أراد المعرفة الفلسفية أو المعرفة الطبيعية فإنه يلجأ إلى مصادر مختلفة عن ذلك المصدر . فلم يكن ثمة خلط بين المصادر المعرفية المتعلقة بالأمور الطبيعية وبين المصادر المعرفية المتعلقة بالأمور الغيبية . لكن هذا بدأ بالتحول في القرن الثالث عشر عندما بدأ بعض رجال الدين يهتمون بالجوانب الفلسفية العقلية وهذا تمامًا كما فعل المتكلمون في مسألة محاولة إثبات الربوبية بالأدلة العقلية، حصل هذا قبل ذلك في العالم الغربي عندما قدّم توما الأكويني على وجه التحديد وهو فيلسوف لاهوتي متأثر بالفلسفة اليونانية لكنه لم يكن بعيدًا عن الأجواء الدينية، كان طرحه ديني لاهوتي لكنه بدأ يطرح القضايا الدينية وإثبات الربوبية ونحو ذلك بأدلة منطقية, بأدلة فلسفية عقلية . وبغض النظر عن نية الأكويني في إقحام الفلسفة في القضايا العقدية والقضايا الغيبية فإن هذا الفعل منه أدى إلى تحول خطير حقيقةً في الفكر الغربي . وذلك أنه لما طرح هو الأدلة العقلية أو الأدلة المنطقية والفلسفية على الوجود الإلهي -على سبيل المثال- أصبح هذا كأنه مهّد الطريق لغيره ممن يريدون أن يناقشوا القضايا الدينية أو القضايا الغيبية خارج إطار الدين والوحي, ومن ثم أصبحت هذه القضايا ( القضايا الدينية والقضايا العقدية والقضايا الغيبية ) تُناقَش في مجالات مختلفة غير الوحي وأصبح ثمة مصدرين متمايزين يمكن للإنسان أن يرجع إلى أي منهما إذا أراد تحصيل مثل هذه المعارف . ثم جاء بعد ذلك في القرن السابع عشر ديكارت وأضاف إلى ما فعله توما الأكويني فإنه رغم أن ديكارت يعتبر نفسه مؤمنًا وجعل الإله من اليقينيات الثلاث عنده إلا أنه قدّم فكرة جديدة ألا وهي مسألة العقل وأن الحقائق إنما ثبوتها عن طريق العقل وأن أصل التشكيك في كل شي ما لم يثبت هذا الشيء بالعقل ومن ثم طُبقت هذه النظريات وهذه الفلسفات وهذه الأفكار في تعظيم العقل على القضايا الدينية فصار الحاكم على صحة العقائد وصحة ما تورده الأديان إنما هو العقل وليس صحة النقل او صحة الوحي . وهنا لي وقفتين مع توما الأكويني وديكارت: الوقفة الأولى: أنه أحيانًا يؤتى الدين من قِبَل أناس يتبنونه أو أناس لا يعادونه تمامًا لكنهم يسلكون مناهج منحرفة في تقرير المعتقدات الدينية أو يقدمون أفكار هي في الحقيقة تهدم الأسس العقدية والدينية رغم أنهم لا يقصدون ذلك أو ليست هذه النية التي يبنون عليها مقولاتهم وأفعالهم . النقطة الثانية: هي أن حركة العصر الجديد والأفكار والتيارات الباطنية في الجملة هي لا تعتمد على العقل ومن ثم ليس المقصود أن طرح الأكويني أو طرح ديكارت هو يعتبر من جذور الأفكار الباطنية لا, وإنما المقصود أن هذه الخطوات أدت إلى انتزاع استقلالية الكنيسة في تقرير المعتقدات والقضايا الدينية الغيبية، فمجرد أنه الآن انسحب البساط -إن صح التعبير- عن الكنيسة أو ما يمكن أن نسميه بالوحي فتح الباب الآن لأي مدرسة أو أي أطروحة تريد ان تتناول هذه القضايا لأن تتناولها, فهي وإن لم تكن متعلقة بالفكر الباطني بشكل مباشر إلا انها أسهمت في تهيئة البيئة المناسبة لانتشار الأفكار الباطنية . وبعد ظهور فلسفة ديكارت العقلية ظهرت عدد من الفلسفات الأخرى التي تتبنى أصول الفكر الديكارتي في مسألة الاعتماد على العقل في تحصيل المعرفة أو استقلال العقل في تحصيل المعارف. فجاء بعده مثلاً اسبينوزا الذي يُعتبر أيضًا له أثر ظاهر في مسألة التمهيد لفكر حركة العصر الجديد وربما الجانب الذي يعتبر بارزًا في فلسفة اسبينوزا هو توصّله بعقله المزعوم إلى عقيدة وحدة الوجود. ولن أطيل في مسألة فلسفة اسبينوزا لأن الذي يهمني هو الذي ظهر بعده وهو (كانت)، لأن (كانت) قدّم أمر إضافي على ما قدمه ديكارت وقدمه اسبينوزا وغيره من الفلاسفة العقلانيين الذين جعلوا الاعتقادات و المواضيع التي تُدرَس في الدين إنما هي من مجال المنطق ومجال الفلسفة والدراسة العقلية . فجاء كانت لينفي ذلك ، يعني هم الآن أخرجوه من إطار الوحي وجعلوها للعقل ثم جاء كانت ليقول لهم لا، حتى المنطق وحتى الفلسفة العقلية هي مصدر غير صحيح للمعرفة الروحية أو المعرفة الإلهية أو المعرفة الغيبية, وقال هذه المعارف إنما يمكن تحصيلها عن طريق المعرفة الحدسية الباطنية، فصار الآن مرحلة تالية قرّبتنا بشكل أوضح إلى الطرح الباطني الحديث ومعتقدات الحركة . بالإضافة إلى مسألة النسبية في المعارف الدينية لأنه مهما كان العقل وإن كان فيه جانب من النسبية إلا أنه بالإمكان الاحتكام وبالإمكان الضبط، لكن المعرفة الحدسية هذه لا يمكن أن تُضبط ولا يمكن أن تُقاس و لا يمكن أن يُنظر إليها بنظرة موضوعية . وهذا ما يقودنا إلى المطلب التالي وهو سيادة النسبية الذاتية في الموقف الغربي من الأخلاق والقيم. كانت بداية طرح موضوع القيم في الفلسفة الغربية هو في القرن التاسع عشر وكان في بداية الأمر يُنظر إلى القيم بشكل عام والأخلاق على أنها معاني مطلقة في حقيقتها وفي مصادرها . لكن بعد ذلك ظهرت بعض المدارس الفلسفية التي تقرر بأن القيم والأخلاق إنما هي نسبية إضافية وليست مطلقة أو أنها ثابتة . ويمكننا توضيح ذلك عن طريق بيان المواقف الفلسفية من مسألة القيم والأخلاق . عندنا موقفين رئيسين كما ذكرنا: الموقف الذي يقول بأنها مطلقة والموقف الثاني الذي يقول بأنها نسبية . موقف المثاليين أو الفلسفة المثالية بشكل عام الذين ينتمون إلى هذا التيار، يقولون بأن الأخلاق والقيم إنما هي ثابتة لا تتعدد ولا تتغير ولذلك قالوا مصدرها إنما هو العقل أو قالوا الحدس . وهنا قد يشكل على المستمع أو القارئ أنه كيف يكون العقل مطلق أو الحدس مطلق . طبعًا هم هذه نظرتهم للعقل أن العقل إنما هو قوة مطلقة يمكن للإنسان إدراك الحقائق المطلقة من خلالها ولذلك جعلوه هو الحاكم على الأمور . فهم يعتقدون بأن العقل إنما هو يدرك الحقائق المطلقة ومن ثم جعلوه مصدرًا لها وجعلوا القيم مطلقة بناء على ذلك . القائلين بالحدس ليس المقصود به الحدس المشهور عند الصوفية والأصوات الداخلية والإلهامات وغير ذلك، إنما المقصود به شيء يشبه الغرائز والفطر التي يُدرك بها ما هو خير ويُدرك بها ما هو شر دون أن يحتاج الإنسان إلى إعمال فكره أو إعمال عقله أو أن يكون لديه وحي ديني أو نص ديني يخبره بأن هذا خير أو هذا شر . وكذلك الموقف الطبيعي الذي جعل القيم خاضعة وثابتة للقوانين الطبيعية. وهذا فيه تفاصيل حقيقة في شرحها وبيان هذه المواقف ومنطلقاتها لكن ليس هذا مجال نقاشه . الموقف الثاني: الذي هو الموقف النسبي من الأخلاق الذي يقول بأن الأخلاق نسبية وهو في الغالب ما يتعلق بالمذاهب المندرجة تحت الفلسفات النفعية التي تُخضِع الخير والشر والحق والباطل والصح والخطأ بناء على ما أستفيد أنا منه وما يحقق لي أنا منفعة فبناء عليه يكون هذا خير أو شر بالنسبة إلي وما يتحقق من هذا الشيء من مصالح أو مفاسد للشخص بعينه . ويمكننا بيان مسألة المذاهب المتبنية لنسبية الحقائق والقيم والأخلاق في عدد من المدارس من أبرزها: المدرسة الرومانسية . المدرسة الرومانسية تُعتَبر ثورة على التوجه العقلي الصرف المجرد الذي برز بعد عهد التنوير, فكانت هذه عبارة عن ردة فعل مضادة له، فكان المقياس عندهم بالنسبة للحقائق أو للقيم أو ما يصح تسميته بالأخلاق أن المصدر لذلك لا يمكن أن يكون العقل المجرد أو الوحي حتى, وإنما يكون عن طريق ما يعرف بالذوق أو ما يعرف بالجمال وهذه بلا شك أمور نسبية ليست مطلقة ولا يقولوا هم بأنها حتى مطلقة, يعني ليس الذوق مطلقًا و لا الجمال مطلقًا وإنما هي معاني نسبية يبنون عليها تصورهم عن الأخلاق والقيم . أما الفلسفة الوجودية القائمة على الحرية المطلقة والتي ترتكز حول الإنسان وحول ما يسعده وما يرضيه وما يشبِع غرائزه, فكما ذكر بعض الباحثين هذه الفلسفات ليس من المفترض أصلاً أن تناقَش موضوع القيم لأنه يتناقض مع أصولها المنحلّة لكن الطرح الفلسفي الوجودي لما يتناول أيّ من موضوع الأخلاق والقيم يجعلها خاضعة للإنسان نفسه ولا يرضى بأي نوع من الفرض الخارجي لأي قيمة أو فرض خارجي لما يعتبر حق أو يعتبر باطل أو يعتبر صحيح أو يعتبر خاطئ إلا ما كان من داخل نفس الإنسان وهذا بلا شك نسبي، أن الإنسان ما يحقق له مصلحة أو يحقق له رضا نفسي فهو يختلف عن ما يحقق للآخر المصلحة أو يشبع غرائز الآخر أو نحو ذلك . فإذًا هي عندهم ليست مطلقة بلا شك وإنما هي نسبية متغيرة من شخص إلى شخص . ومثلها الفلسفة الحداثية التي تقوم على الثورة المستمرة على الدين وعلى الإيمان وعلى التراث وعلى القيم المجتمعية، أيّ شيء يكون ثابت وأسس في نفس الإنسان أو في مجتمعه تُعد الحداثة ثورة عليه و تنسفه نسفًا . فالقيم بلا شك عندهم من الأمور التي لا يمكن أن تُفرض من جهة خارجية وإنما هي لا بد أن تكون خاضعة للتحديث المستمر والتغيير فهي نسبية . بعد ذلك ظهرت ما تعرف بــ(ما بعد الحداثة) ، و ما بعد الحداثة هو مفهوم ظهر في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين يعني يعتبر هذا من أواخر المذاهب الغربية ظهورًا ، تعتبر ما بعد الحداثة عبارة عن انشقاق أو ثورة على الحداثة ، الحداثة لما أخلت المجتمعات من كل الثوابت والموروثات الثقافية والدينية ، أصبحت المجتمعات خالية من هذه الثوابت وأصبح فيها نوع من الخواء الفكري والخواء الثقافي فجاءت ما بعد الحداثة تحاول مَلء هذا الفراغ الذي أحدثته الحداثة, لكنها لم تفعل ذلك بإعادتها إلى الأصول الثقافية أو الأصول الدينية التي قامت عليها المجتمعات وإنما حاولت ملأها ببدائل حديثة تحاكي تلك الثقافات القديمة الأصيلة وتعتبر حركة العصر الجديد منسجمة مع هذا النسق الذي حاول ملء الفراغ الثقافي والديني الذي أحدثته الحداثة بروحانيات مبتدَعَة ومحدثة ومجددة . المقصود أنه وإن كانت ما بعد الحداثة تعتبر معارِضة للحداثة أو مكملة للحداثة أو ممتدة لها، منشقة عنها, إلا أنها توافقها في مسألة نسبية القيم . ولا يرضى أتباع ما بعد الحداثة بالقيم الثابتة أو الأخلاق الثابتة المطلقة المفروضة من مصادر خارجية . وبهذه التدرجات الفكرية والتطور في الفلسفة الغربية أصبحت البيئة ممهدة ومهيأة لاستقبال الفلسفات الشرقية التي أصبحت تتوافق مع هذه المعطيات الفلسفية التي استقرت في الساحة الغربية . بعد ذلك يمكننا الانتقال إلى التمهيد للباب الثاني المتعلق بتعريف الباطنية ومفهوم هذا المصطلح في حركة العصر الجديد . الباطنية لها عدة تعاريف وربما يتبادر إلى الذهن في الغالب الباطنية التي هي الفرق المغالية في الرفض أو فرق الشيعة المغالية يطلق عليها الباطنية, لكن الباطنية التي نقصدها في هذا السياق إنما هي الباطنية الصوفية . وإذا أردنا أن نحدد المعالم التي إذا اجتمعت في تيار أو اجتمعت في فكر أطلقنا عليه أنه فكر باطني أو أنه تيار باطني أو ربما العوامل المشتركة في التيارات الباطنية، وجدناها تتمثل في عدة نقاط من ضمنها الاعتقاد بإله مطلق أو الاعتقاد بوحدة الوجود، الاعتقاد بالتأويل الباطني للنصوص الشرعية أو النصوص المقدسة، التعاليم السرية وكتمان المعتقدات، ما يتعلق بمسألة الخلاص وأن الخلاص أو النجاة تكون عن طريق أساليب داخلية وليست عن طريق مصدر خارجي وكذلك يتصفون بصفات معينة في نشر معتقداتهم .
لم ينشر المقطع الصوتي
التفريغ بالأسفل
200:00
تفريغ توضيح الورد الرابع
الموضوع الذي سنتناوله اليوم هو موضوع مهم؛ لأنه يعطينا تصور عن صفات البيئة التي انتشر فيها الفكر الباطني الذي قدم من الشرق والعوامل التي أثرت في انتشاره في البيئة الغربية .
حركة العصر الجديد -كما هو معلوم- هي عبارة عن حركة غربية نشأت في الغرب وانتشرت في الغرب وانتقلت إلى العالم من الغرب, لكنها تأثرت بشكل واضح وظاهر بالفلسفات الشرقية .
فما هي العوامل التي أثرت في انتشار الفلسفات الشرقية في بيئة هي في الأصل لا تتبنّى نفس المعتقدات ؟
ولعل النقطة التي يمكن أن ننطلق منها ونقطة البداية في هذه الإشكالية المتأصلة هي ما عنونت له في المطلب بـ(تقلص استقلالية الوحي كمصدر للاعتقاد وسيادة العقل على الدين) .
في العالم الغربي كان ثمة انقسام بين المعرفة الدينية وبين المعرفة العقلية والمعرفة الطبيعية, يعني من أراد أن يحصل على معرفة دينية أو معرفة غيبية فإنه يلجأ إلى الكنيسة أو ما يمكن أن نطلق عليه (الوحي) تجوّزًا.
ومن أراد المعرفة العقلية أو أراد المعرفة الفلسفية أو المعرفة الطبيعية فإنه يلجأ إلى مصادر مختلفة عن ذلك المصدر .
فلم يكن ثمة خلط بين المصادر المعرفية المتعلقة بالأمور الطبيعية وبين المصادر المعرفية المتعلقة بالأمور الغيبية . لكن هذا بدأ بالتحول في القرن الثالث عشر عندما بدأ بعض رجال الدين يهتمون بالجوانب الفلسفية العقلية وهذا تمامًا كما فعل المتكلمون في مسألة محاولة إثبات الربوبية بالأدلة العقلية، حصل هذا قبل ذلك في العالم الغربي عندما قدّم توما الأكويني على وجه التحديد وهو فيلسوف لاهوتي متأثر بالفلسفة اليونانية لكنه لم يكن بعيدًا عن الأجواء الدينية، كان طرحه ديني لاهوتي لكنه بدأ يطرح القضايا الدينية وإثبات الربوبية ونحو ذلك بأدلة منطقية, بأدلة فلسفية عقلية .
وبغض النظر عن نية الأكويني في إقحام الفلسفة في القضايا العقدية والقضايا الغيبية فإن هذا الفعل منه أدى إلى تحول خطير حقيقةً في الفكر الغربي .
وذلك أنه لما طرح هو الأدلة العقلية أو الأدلة المنطقية والفلسفية على الوجود الإلهي -على سبيل المثال- أصبح هذا كأنه مهّد الطريق لغيره ممن يريدون أن يناقشوا القضايا الدينية أو القضايا الغيبية خارج إطار الدين والوحي, ومن ثم أصبحت هذه القضايا ( القضايا الدينية والقضايا العقدية والقضايا الغيبية ) تُناقَش في مجالات مختلفة غير الوحي وأصبح ثمة مصدرين متمايزين يمكن للإنسان أن يرجع إلى أي منهما إذا أراد تحصيل مثل هذه المعارف .
ثم جاء بعد ذلك في القرن السابع عشر ديكارت وأضاف إلى ما فعله توما الأكويني فإنه رغم أن ديكارت يعتبر نفسه مؤمنًا وجعل الإله من اليقينيات الثلاث عنده إلا أنه قدّم فكرة جديدة ألا وهي مسألة العقل وأن الحقائق إنما ثبوتها عن طريق العقل وأن أصل التشكيك في كل شي ما لم يثبت هذا الشيء بالعقل ومن ثم طُبقت هذه النظريات وهذه الفلسفات وهذه الأفكار في تعظيم العقل على القضايا الدينية فصار الحاكم على صحة العقائد وصحة ما تورده الأديان إنما هو العقل وليس صحة النقل او صحة الوحي .
وهنا لي وقفتين مع توما الأكويني وديكارت:
الوقفة الأولى: أنه أحيانًا يؤتى الدين من قِبَل أناس يتبنونه أو أناس لا يعادونه تمامًا لكنهم يسلكون مناهج منحرفة في تقرير المعتقدات الدينية أو يقدمون أفكار هي في الحقيقة تهدم الأسس العقدية والدينية رغم أنهم لا يقصدون ذلك أو ليست هذه النية التي يبنون عليها مقولاتهم وأفعالهم .
النقطة الثانية: هي أن حركة العصر الجديد والأفكار والتيارات الباطنية في الجملة هي لا تعتمد على العقل ومن ثم ليس المقصود أن طرح الأكويني أو طرح ديكارت هو يعتبر من جذور الأفكار الباطنية لا, وإنما المقصود أن هذه الخطوات أدت إلى انتزاع استقلالية الكنيسة في تقرير المعتقدات والقضايا الدينية الغيبية، فمجرد أنه الآن انسحب البساط -إن صح التعبير- عن الكنيسة أو ما يمكن أن نسميه بالوحي فتح الباب الآن لأي مدرسة أو أي أطروحة تريد ان تتناول هذه القضايا لأن تتناولها, فهي وإن لم تكن متعلقة بالفكر الباطني بشكل مباشر إلا انها أسهمت في تهيئة البيئة المناسبة لانتشار الأفكار الباطنية .
وبعد ظهور فلسفة ديكارت العقلية ظهرت عدد من الفلسفات الأخرى التي تتبنى أصول الفكر الديكارتي في مسألة الاعتماد على العقل في تحصيل المعرفة أو استقلال العقل في تحصيل المعارف.
فجاء بعده مثلاً اسبينوزا الذي يُعتبر أيضًا له أثر ظاهر في مسألة التمهيد لفكر حركة العصر الجديد وربما الجانب الذي يعتبر بارزًا في فلسفة اسبينوزا هو توصّله بعقله المزعوم إلى عقيدة وحدة الوجود.
ولن أطيل في مسألة فلسفة اسبينوزا لأن الذي يهمني هو الذي ظهر بعده وهو (كانت)، لأن (كانت) قدّم أمر إضافي على ما قدمه ديكارت وقدمه اسبينوزا وغيره من الفلاسفة العقلانيين الذين جعلوا الاعتقادات و المواضيع التي تُدرَس في الدين إنما هي من مجال المنطق ومجال الفلسفة والدراسة العقلية .
فجاء كانت لينفي ذلك ، يعني هم الآن أخرجوه من إطار الوحي وجعلوها للعقل ثم جاء كانت ليقول لهم لا، حتى المنطق وحتى الفلسفة العقلية هي مصدر غير صحيح للمعرفة الروحية أو المعرفة الإلهية أو المعرفة الغيبية, وقال هذه المعارف إنما يمكن تحصيلها عن طريق المعرفة الحدسية الباطنية، فصار الآن مرحلة تالية قرّبتنا بشكل أوضح إلى الطرح الباطني الحديث ومعتقدات الحركة .
بالإضافة إلى مسألة النسبية في المعارف الدينية لأنه مهما كان العقل وإن كان فيه جانب من النسبية إلا أنه بالإمكان الاحتكام وبالإمكان الضبط، لكن المعرفة الحدسية هذه لا يمكن أن تُضبط ولا يمكن أن تُقاس و لا يمكن أن يُنظر إليها بنظرة موضوعية .
وهذا ما يقودنا إلى المطلب التالي وهو سيادة النسبية الذاتية في الموقف الغربي من الأخلاق والقيم.
كانت بداية طرح موضوع القيم في الفلسفة الغربية هو في القرن التاسع عشر وكان في بداية الأمر يُنظر إلى القيم بشكل عام والأخلاق على أنها معاني مطلقة في حقيقتها وفي مصادرها .
لكن بعد ذلك ظهرت بعض المدارس الفلسفية التي تقرر بأن القيم والأخلاق إنما هي نسبية إضافية وليست مطلقة أو أنها ثابتة .
ويمكننا توضيح ذلك عن طريق بيان المواقف الفلسفية من مسألة القيم والأخلاق .
عندنا موقفين رئيسين كما ذكرنا: الموقف الذي يقول بأنها مطلقة والموقف الثاني الذي يقول بأنها نسبية .
موقف المثاليين أو الفلسفة المثالية بشكل عام الذين ينتمون إلى هذا التيار، يقولون بأن الأخلاق والقيم إنما هي ثابتة لا تتعدد ولا تتغير ولذلك قالوا مصدرها إنما هو العقل أو قالوا الحدس .
وهنا قد يشكل على المستمع أو القارئ أنه كيف يكون العقل مطلق أو الحدس مطلق .
طبعًا هم هذه نظرتهم للعقل أن العقل إنما هو قوة مطلقة يمكن للإنسان إدراك الحقائق المطلقة من خلالها ولذلك جعلوه هو الحاكم على الأمور . فهم يعتقدون بأن العقل إنما هو يدرك الحقائق المطلقة ومن ثم جعلوه مصدرًا لها وجعلوا القيم مطلقة بناء على ذلك .
القائلين بالحدس ليس المقصود به الحدس المشهور عند الصوفية والأصوات الداخلية والإلهامات وغير ذلك، إنما المقصود به شيء يشبه الغرائز والفطر التي يُدرك بها ما هو خير ويُدرك بها ما هو شر دون أن يحتاج الإنسان إلى إعمال فكره أو إعمال عقله أو أن يكون لديه وحي ديني أو نص ديني يخبره بأن هذا خير أو هذا شر .
وكذلك الموقف الطبيعي الذي جعل القيم خاضعة وثابتة للقوانين الطبيعية. وهذا فيه تفاصيل حقيقة في شرحها وبيان هذه المواقف ومنطلقاتها لكن ليس هذا مجال نقاشه .
الموقف الثاني: الذي هو الموقف النسبي من الأخلاق الذي يقول بأن الأخلاق نسبية وهو في الغالب ما يتعلق بالمذاهب المندرجة تحت الفلسفات النفعية التي تُخضِع الخير والشر والحق والباطل والصح والخطأ بناء على ما أستفيد أنا منه وما يحقق لي أنا منفعة فبناء عليه يكون هذا خير أو شر بالنسبة إلي وما يتحقق من هذا الشيء من مصالح أو مفاسد للشخص بعينه .
ويمكننا بيان مسألة المذاهب المتبنية لنسبية الحقائق والقيم والأخلاق في عدد من المدارس من أبرزها: المدرسة الرومانسية .
المدرسة الرومانسية تُعتَبر ثورة على التوجه العقلي الصرف المجرد الذي برز بعد عهد التنوير, فكانت هذه عبارة عن ردة فعل مضادة له، فكان المقياس عندهم بالنسبة للحقائق أو للقيم أو ما يصح تسميته بالأخلاق أن المصدر لذلك لا يمكن أن يكون العقل المجرد أو الوحي حتى, وإنما يكون عن طريق ما يعرف بالذوق أو ما يعرف بالجمال وهذه بلا شك أمور نسبية ليست مطلقة ولا يقولوا هم بأنها حتى مطلقة, يعني ليس الذوق مطلقًا و لا الجمال مطلقًا وإنما هي معاني نسبية يبنون عليها تصورهم عن الأخلاق والقيم .
أما الفلسفة الوجودية القائمة على الحرية المطلقة والتي ترتكز حول الإنسان وحول ما يسعده وما يرضيه وما يشبِع غرائزه, فكما ذكر بعض الباحثين هذه الفلسفات ليس من المفترض أصلاً أن تناقَش موضوع القيم لأنه يتناقض مع أصولها المنحلّة لكن الطرح الفلسفي الوجودي لما يتناول أيّ من موضوع الأخلاق والقيم يجعلها خاضعة للإنسان نفسه ولا يرضى بأي نوع من الفرض الخارجي لأي قيمة أو فرض خارجي لما يعتبر حق أو يعتبر باطل أو يعتبر صحيح أو يعتبر خاطئ إلا ما كان من داخل نفس الإنسان وهذا بلا شك نسبي، أن الإنسان ما يحقق له مصلحة أو يحقق له رضا نفسي فهو يختلف عن ما يحقق للآخر المصلحة أو يشبع غرائز الآخر أو نحو ذلك .
فإذًا هي عندهم ليست مطلقة بلا شك وإنما هي نسبية متغيرة من شخص إلى شخص .
ومثلها الفلسفة الحداثية التي تقوم على الثورة المستمرة على الدين وعلى الإيمان وعلى التراث وعلى القيم المجتمعية، أيّ شيء يكون ثابت وأسس في نفس الإنسان أو في مجتمعه تُعد الحداثة ثورة عليه و تنسفه نسفًا .
فالقيم بلا شك عندهم من الأمور التي لا يمكن أن تُفرض من جهة خارجية وإنما هي لا بد أن تكون خاضعة للتحديث المستمر والتغيير فهي نسبية .
بعد ذلك ظهرت ما تعرف بــ(ما بعد الحداثة) ، و ما بعد الحداثة هو مفهوم ظهر في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين يعني يعتبر هذا من أواخر المذاهب الغربية ظهورًا ، تعتبر ما بعد الحداثة عبارة عن انشقاق أو ثورة على الحداثة ، الحداثة لما أخلت المجتمعات من كل الثوابت والموروثات الثقافية والدينية ، أصبحت المجتمعات خالية من هذه الثوابت وأصبح فيها نوع من الخواء الفكري والخواء الثقافي فجاءت ما بعد الحداثة تحاول مَلء هذا الفراغ الذي أحدثته الحداثة, لكنها لم تفعل ذلك بإعادتها إلى الأصول الثقافية أو الأصول الدينية التي قامت عليها المجتمعات وإنما حاولت ملأها ببدائل حديثة تحاكي تلك الثقافات القديمة الأصيلة وتعتبر حركة العصر الجديد منسجمة مع هذا النسق الذي حاول ملء الفراغ الثقافي والديني الذي أحدثته الحداثة بروحانيات مبتدَعَة ومحدثة ومجددة .
المقصود أنه وإن كانت ما بعد الحداثة تعتبر معارِضة للحداثة أو مكملة للحداثة أو ممتدة لها، منشقة عنها, إلا أنها توافقها في مسألة نسبية القيم .
ولا يرضى أتباع ما بعد الحداثة بالقيم الثابتة أو الأخلاق الثابتة المطلقة المفروضة من مصادر خارجية .
وبهذه التدرجات الفكرية والتطور في الفلسفة الغربية أصبحت البيئة ممهدة ومهيأة لاستقبال الفلسفات الشرقية التي أصبحت تتوافق مع هذه المعطيات الفلسفية التي استقرت في الساحة الغربية .
بعد ذلك يمكننا الانتقال إلى التمهيد للباب الثاني المتعلق بتعريف الباطنية ومفهوم هذا المصطلح في حركة العصر الجديد .
الباطنية لها عدة تعاريف وربما يتبادر إلى الذهن في الغالب الباطنية التي هي الفرق المغالية في الرفض أو فرق الشيعة المغالية يطلق عليها الباطنية, لكن الباطنية التي نقصدها في هذا السياق إنما هي الباطنية الصوفية .
وإذا أردنا أن نحدد المعالم التي إذا اجتمعت في تيار أو اجتمعت في فكر أطلقنا عليه أنه فكر باطني أو أنه تيار باطني أو ربما العوامل المشتركة في التيارات الباطنية، وجدناها تتمثل في عدة نقاط من ضمنها الاعتقاد بإله مطلق أو الاعتقاد بوحدة الوجود، الاعتقاد بالتأويل الباطني للنصوص الشرعية أو النصوص المقدسة، التعاليم السرية وكتمان المعتقدات، ما يتعلق بمسألة الخلاص وأن الخلاص أو النجاة تكون عن طريق أساليب داخلية وليست عن طريق مصدر خارجي وكذلك يتصفون بصفات معينة في نشر معتقداتهم .
الموضوع الذي سنتناوله اليوم هو موضوع مهم؛ لأنه يعطينا تصور عن صفات البيئة التي انتشر فيها الفكر الباطني الذي قدم من الشرق والعوامل التي أثرت في انتشاره في البيئة الغربية .
حركة العصر الجديد -كما هو معلوم- هي عبارة عن حركة غربية نشأت في الغرب وانتشرت في الغرب وانتقلت إلى العالم من الغرب, لكنها تأثرت بشكل واضح وظاهر بالفلسفات الشرقية .
فما هي العوامل التي أثرت في انتشار الفلسفات الشرقية في بيئة هي في الأصل لا تتبنّى نفس المعتقدات ؟
ولعل النقطة التي يمكن أن ننطلق منها ونقطة البداية في هذه الإشكالية المتأصلة هي ما عنونت له في المطلب بـ(تقلص استقلالية الوحي كمصدر للاعتقاد وسيادة العقل على الدين) .
في العالم الغربي كان ثمة انقسام بين المعرفة الدينية وبين المعرفة العقلية والمعرفة الطبيعية, يعني من أراد أن يحصل على معرفة دينية أو معرفة غيبية فإنه يلجأ إلى الكنيسة أو ما يمكن أن نطلق عليه (الوحي) تجوّزًا.
ومن أراد المعرفة العقلية أو أراد المعرفة الفلسفية أو المعرفة الطبيعية فإنه يلجأ إلى مصادر مختلفة عن ذلك المصدر .
فلم يكن ثمة خلط بين المصادر المعرفية المتعلقة بالأمور الطبيعية وبين المصادر المعرفية المتعلقة بالأمور الغيبية . لكن هذا بدأ بالتحول في القرن الثالث عشر عندما بدأ بعض رجال الدين يهتمون بالجوانب الفلسفية العقلية وهذا تمامًا كما فعل المتكلمون في مسألة محاولة إثبات الربوبية بالأدلة العقلية، حصل هذا قبل ذلك في العالم الغربي عندما قدّم توما الأكويني على وجه التحديد وهو فيلسوف لاهوتي متأثر بالفلسفة اليونانية لكنه لم يكن بعيدًا عن الأجواء الدينية، كان طرحه ديني لاهوتي لكنه بدأ يطرح القضايا الدينية وإثبات الربوبية ونحو ذلك بأدلة منطقية, بأدلة فلسفية عقلية .
وبغض النظر عن نية الأكويني في إقحام الفلسفة في القضايا العقدية والقضايا الغيبية فإن هذا الفعل منه أدى إلى تحول خطير حقيقةً في الفكر الغربي .
وذلك أنه لما طرح هو الأدلة العقلية أو الأدلة المنطقية والفلسفية على الوجود الإلهي -على سبيل المثال- أصبح هذا كأنه مهّد الطريق لغيره ممن يريدون أن يناقشوا القضايا الدينية أو القضايا الغيبية خارج إطار الدين والوحي, ومن ثم أصبحت هذه القضايا ( القضايا الدينية والقضايا العقدية والقضايا الغيبية ) تُناقَش في مجالات مختلفة غير الوحي وأصبح ثمة مصدرين متمايزين يمكن للإنسان أن يرجع إلى أي منهما إذا أراد تحصيل مثل هذه المعارف .
ثم جاء بعد ذلك في القرن السابع عشر ديكارت وأضاف إلى ما فعله توما الأكويني فإنه رغم أن ديكارت يعتبر نفسه مؤمنًا وجعل الإله من اليقينيات الثلاث عنده إلا أنه قدّم فكرة جديدة ألا وهي مسألة العقل وأن الحقائق إنما ثبوتها عن طريق العقل وأن أصل التشكيك في كل شي ما لم يثبت هذا الشيء بالعقل ومن ثم طُبقت هذه النظريات وهذه الفلسفات وهذه الأفكار في تعظيم العقل على القضايا الدينية فصار الحاكم على صحة العقائد وصحة ما تورده الأديان إنما هو العقل وليس صحة النقل او صحة الوحي .
وهنا لي وقفتين مع توما الأكويني وديكارت:
الوقفة الأولى: أنه أحيانًا يؤتى الدين من قِبَل أناس يتبنونه أو أناس لا يعادونه تمامًا لكنهم يسلكون مناهج منحرفة في تقرير المعتقدات الدينية أو يقدمون أفكار هي في الحقيقة تهدم الأسس العقدية والدينية رغم أنهم لا يقصدون ذلك أو ليست هذه النية التي يبنون عليها مقولاتهم وأفعالهم .
النقطة الثانية: هي أن حركة العصر الجديد والأفكار والتيارات الباطنية في الجملة هي لا تعتمد على العقل ومن ثم ليس المقصود أن طرح الأكويني أو طرح ديكارت هو يعتبر من جذور الأفكار الباطنية لا, وإنما المقصود أن هذه الخطوات أدت إلى انتزاع استقلالية الكنيسة في تقرير المعتقدات والقضايا الدينية الغيبية، فمجرد أنه الآن انسحب البساط -إن صح التعبير- عن الكنيسة أو ما يمكن أن نسميه بالوحي فتح الباب الآن لأي مدرسة أو أي أطروحة تريد ان تتناول هذه القضايا لأن تتناولها, فهي وإن لم تكن متعلقة بالفكر الباطني بشكل مباشر إلا انها أسهمت في تهيئة البيئة المناسبة لانتشار الأفكار الباطنية .
وبعد ظهور فلسفة ديكارت العقلية ظهرت عدد من الفلسفات الأخرى التي تتبنى أصول الفكر الديكارتي في مسألة الاعتماد على العقل في تحصيل المعرفة أو استقلال العقل في تحصيل المعارف.
فجاء بعده مثلاً اسبينوزا الذي يُعتبر أيضًا له أثر ظاهر في مسألة التمهيد لفكر حركة العصر الجديد وربما الجانب الذي يعتبر بارزًا في فلسفة اسبينوزا هو توصّله بعقله المزعوم إلى عقيدة وحدة الوجود.
ولن أطيل في مسألة فلسفة اسبينوزا لأن الذي يهمني هو الذي ظهر بعده وهو (كانت)، لأن (كانت) قدّم أمر إضافي على ما قدمه ديكارت وقدمه اسبينوزا وغيره من الفلاسفة العقلانيين الذين جعلوا الاعتقادات و المواضيع التي تُدرَس في الدين إنما هي من مجال المنطق ومجال الفلسفة والدراسة العقلية .
فجاء كانت لينفي ذلك ، يعني هم الآن أخرجوه من إطار الوحي وجعلوها للعقل ثم جاء كانت ليقول لهم لا، حتى المنطق وحتى الفلسفة العقلية هي مصدر غير صحيح للمعرفة الروحية أو المعرفة الإلهية أو المعرفة الغيبية, وقال هذه المعارف إنما يمكن تحصيلها عن طريق المعرفة الحدسية الباطنية، فصار الآن مرحلة تالية قرّبتنا بشكل أوضح إلى الطرح الباطني الحديث ومعتقدات الحركة .
بالإضافة إلى مسألة النسبية في المعارف الدينية لأنه مهما كان العقل وإن كان فيه جانب من النسبية إلا أنه بالإمكان الاحتكام وبالإمكان الضبط، لكن المعرفة الحدسية هذه لا يمكن أن تُضبط ولا يمكن أن تُقاس و لا يمكن أن يُنظر إليها بنظرة موضوعية .
وهذا ما يقودنا إلى المطلب التالي وهو سيادة النسبية الذاتية في الموقف الغربي من الأخلاق والقيم.
كانت بداية طرح موضوع القيم في الفلسفة الغربية هو في القرن التاسع عشر وكان في بداية الأمر يُنظر إلى القيم بشكل عام والأخلاق على أنها معاني مطلقة في حقيقتها وفي مصادرها .
لكن بعد ذلك ظهرت بعض المدارس الفلسفية التي تقرر بأن القيم والأخلاق إنما هي نسبية إضافية وليست مطلقة أو أنها ثابتة .
ويمكننا توضيح ذلك عن طريق بيان المواقف الفلسفية من مسألة القيم والأخلاق .
عندنا موقفين رئيسين كما ذكرنا: الموقف الذي يقول بأنها مطلقة والموقف الثاني الذي يقول بأنها نسبية .
موقف المثاليين أو الفلسفة المثالية بشكل عام الذين ينتمون إلى هذا التيار، يقولون بأن الأخلاق والقيم إنما هي ثابتة لا تتعدد ولا تتغير ولذلك قالوا مصدرها إنما هو العقل أو قالوا الحدس .
وهنا قد يشكل على المستمع أو القارئ أنه كيف يكون العقل مطلق أو الحدس مطلق .
طبعًا هم هذه نظرتهم للعقل أن العقل إنما هو قوة مطلقة يمكن للإنسان إدراك الحقائق المطلقة من خلالها ولذلك جعلوه هو الحاكم على الأمور . فهم يعتقدون بأن العقل إنما هو يدرك الحقائق المطلقة ومن ثم جعلوه مصدرًا لها وجعلوا القيم مطلقة بناء على ذلك .
القائلين بالحدس ليس المقصود به الحدس المشهور عند الصوفية والأصوات الداخلية والإلهامات وغير ذلك، إنما المقصود به شيء يشبه الغرائز والفطر التي يُدرك بها ما هو خير ويُدرك بها ما هو شر دون أن يحتاج الإنسان إلى إعمال فكره أو إعمال عقله أو أن يكون لديه وحي ديني أو نص ديني يخبره بأن هذا خير أو هذا شر .
وكذلك الموقف الطبيعي الذي جعل القيم خاضعة وثابتة للقوانين الطبيعية. وهذا فيه تفاصيل حقيقة في شرحها وبيان هذه المواقف ومنطلقاتها لكن ليس هذا مجال نقاشه .
الموقف الثاني: الذي هو الموقف النسبي من الأخلاق الذي يقول بأن الأخلاق نسبية وهو في الغالب ما يتعلق بالمذاهب المندرجة تحت الفلسفات النفعية التي تُخضِع الخير والشر والحق والباطل والصح والخطأ بناء على ما أستفيد أنا منه وما يحقق لي أنا منفعة فبناء عليه يكون هذا خير أو شر بالنسبة إلي وما يتحقق من هذا الشيء من مصالح أو مفاسد للشخص بعينه .
ويمكننا بيان مسألة المذاهب المتبنية لنسبية الحقائق والقيم والأخلاق في عدد من المدارس من أبرزها: المدرسة الرومانسية .
المدرسة الرومانسية تُعتَبر ثورة على التوجه العقلي الصرف المجرد الذي برز بعد عهد التنوير, فكانت هذه عبارة عن ردة فعل مضادة له، فكان المقياس عندهم بالنسبة للحقائق أو للقيم أو ما يصح تسميته بالأخلاق أن المصدر لذلك لا يمكن أن يكون العقل المجرد أو الوحي حتى, وإنما يكون عن طريق ما يعرف بالذوق أو ما يعرف بالجمال وهذه بلا شك أمور نسبية ليست مطلقة ولا يقولوا هم بأنها حتى مطلقة, يعني ليس الذوق مطلقًا و لا الجمال مطلقًا وإنما هي معاني نسبية يبنون عليها تصورهم عن الأخلاق والقيم .
أما الفلسفة الوجودية القائمة على الحرية المطلقة والتي ترتكز حول الإنسان وحول ما يسعده وما يرضيه وما يشبِع غرائزه, فكما ذكر بعض الباحثين هذه الفلسفات ليس من المفترض أصلاً أن تناقَش موضوع القيم لأنه يتناقض مع أصولها المنحلّة لكن الطرح الفلسفي الوجودي لما يتناول أيّ من موضوع الأخلاق والقيم يجعلها خاضعة للإنسان نفسه ولا يرضى بأي نوع من الفرض الخارجي لأي قيمة أو فرض خارجي لما يعتبر حق أو يعتبر باطل أو يعتبر صحيح أو يعتبر خاطئ إلا ما كان من داخل نفس الإنسان وهذا بلا شك نسبي، أن الإنسان ما يحقق له مصلحة أو يحقق له رضا نفسي فهو يختلف عن ما يحقق للآخر المصلحة أو يشبع غرائز الآخر أو نحو ذلك .
فإذًا هي عندهم ليست مطلقة بلا شك وإنما هي نسبية متغيرة من شخص إلى شخص .
ومثلها الفلسفة الحداثية التي تقوم على الثورة المستمرة على الدين وعلى الإيمان وعلى التراث وعلى القيم المجتمعية، أيّ شيء يكون ثابت وأسس في نفس الإنسان أو في مجتمعه تُعد الحداثة ثورة عليه و تنسفه نسفًا .
فالقيم بلا شك عندهم من الأمور التي لا يمكن أن تُفرض من جهة خارجية وإنما هي لا بد أن تكون خاضعة للتحديث المستمر والتغيير فهي نسبية .
بعد ذلك ظهرت ما تعرف بــ(ما بعد الحداثة) ، و ما بعد الحداثة هو مفهوم ظهر في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين يعني يعتبر هذا من أواخر المذاهب الغربية ظهورًا ، تعتبر ما بعد الحداثة عبارة عن انشقاق أو ثورة على الحداثة ، الحداثة لما أخلت المجتمعات من كل الثوابت والموروثات الثقافية والدينية ، أصبحت المجتمعات خالية من هذه الثوابت وأصبح فيها نوع من الخواء الفكري والخواء الثقافي فجاءت ما بعد الحداثة تحاول مَلء هذا الفراغ الذي أحدثته الحداثة, لكنها لم تفعل ذلك بإعادتها إلى الأصول الثقافية أو الأصول الدينية التي قامت عليها المجتمعات وإنما حاولت ملأها ببدائل حديثة تحاكي تلك الثقافات القديمة الأصيلة وتعتبر حركة العصر الجديد منسجمة مع هذا النسق الذي حاول ملء الفراغ الثقافي والديني الذي أحدثته الحداثة بروحانيات مبتدَعَة ومحدثة ومجددة .
المقصود أنه وإن كانت ما بعد الحداثة تعتبر معارِضة للحداثة أو مكملة للحداثة أو ممتدة لها، منشقة عنها, إلا أنها توافقها في مسألة نسبية القيم .
ولا يرضى أتباع ما بعد الحداثة بالقيم الثابتة أو الأخلاق الثابتة المطلقة المفروضة من مصادر خارجية .
وبهذه التدرجات الفكرية والتطور في الفلسفة الغربية أصبحت البيئة ممهدة ومهيأة لاستقبال الفلسفات الشرقية التي أصبحت تتوافق مع هذه المعطيات الفلسفية التي استقرت في الساحة الغربية .
بعد ذلك يمكننا الانتقال إلى التمهيد للباب الثاني المتعلق بتعريف الباطنية ومفهوم هذا المصطلح في حركة العصر الجديد .
الباطنية لها عدة تعاريف وربما يتبادر إلى الذهن في الغالب الباطنية التي هي الفرق المغالية في الرفض أو فرق الشيعة المغالية يطلق عليها الباطنية, لكن الباطنية التي نقصدها في هذا السياق إنما هي الباطنية الصوفية .
وإذا أردنا أن نحدد المعالم التي إذا اجتمعت في تيار أو اجتمعت في فكر أطلقنا عليه أنه فكر باطني أو أنه تيار باطني أو ربما العوامل المشتركة في التيارات الباطنية، وجدناها تتمثل في عدة نقاط من ضمنها الاعتقاد بإله مطلق أو الاعتقاد بوحدة الوجود، الاعتقاد بالتأويل الباطني للنصوص الشرعية أو النصوص المقدسة، التعاليم السرية وكتمان المعتقدات، ما يتعلق بمسألة الخلاص وأن الخلاص أو النجاة تكون عن طريق أساليب داخلية وليست عن طريق مصدر خارجي وكذلك يتصفون بصفات معينة في نشر معتقداتهم .
لا يوجد مناقشات
لا يوجد اقتباسات
مريم إبراهيم
لم أفهم الشعار الذي يردده الحداثيون << لا سلطان على العقل إلا العقل >>
د.هيفاء بنت ناصر الرشيد
هو على ظاهره، إنكار لأي سلطة دينية أو غيرها أن تكون حاكمة على العقل.